في التّايمز سِكْوير

 

هادي الميّاح   

 

توقفّ عند الدكة الوسطية في مدخل السوق. ضجر من الزحمة، وزفير المتبضعين. خرجتْ ذاته من أزرار قميصه السفلى، وتدحرجت أمامه، لتتوقف قرب معرض للألبسة النسائية. ثمة فتاتان واقفتين لصق زجاج واجهة المعرض، تنظران إلى البدلات المعروضة، تتفحصان أشكالها وألوانها، تتخيلانها على جسديهما، وتطبعان بين لحظة وأخرى ابتساماتٍ على الزجاج. نطّت على كتف أحداهما وكانت شقراء، ثم تسلقت على رقبتها الملساء بخفة، واختفت هناك.
من مكانه، سمع هسهسة انبسطتْ لها أساريره. رأته الفتاة في زجاج الواجهة، فانبسطت هي الأخرى، وركّزت على شكله، ملامح وجهه، سيماء ابتسامته. تفحصته جيدًا من خلف الزجاج. ارتدتْ قميصه، وتداخلتْ بين أكمامه. أشعرها ذلك بالدفء، فتحولتْ ابتسامتها إلى ضحكة!
همست مع نفسها: “هذا يليق بي”
سمعتها الأخرى. ردت عليها: “لم أجد ما يناسبني هنا”.

استدارتْ الشقراء إلى الوراء قليلًا، تحركتْ باتجاهه، فانكشفتْ له ملامح وجهها في الضوء. تاهت ذاته، فراح يبحث عنها، نظر إلى خصلات الشعر الذهبية المتراقصة.. بياض واستطالة العنق، تمعن بالوجه جيدا.
احترم استدارته لأنها تشبه القمر.. رأى التماعة وهدوء عينيها، فشعر بنعومة وعطر منعش ينبجس من بين جوانبه.. وتدفق وجريان سريع في عروق أوردته. بين تلك الملامح، وجد ذاته متشبثة لا ترغب بالنزول، وعندما هبطت من مكانها، تلوّى قليلا، ولم يتمكن من قبل التعرّف عليها بسهولة. فقد أصبحت غريبة نوعما عليه.
عندما اتخذت الفتاة مكانها إلى جانبه على الدكّة.
لاحظتها الأخرى: “ليس دائمًا نحظى بما يعجبنا”.
قالتْ ذلك وعيونها تراقبُ كل ما ينعكس أمامها. رأتهما يجلسان كأنهما يعرفان بعض، أشعرها ذلك بالغيرة وراحتْ عواطفها المكبوتة تنبعث من أماكنها هناك في الباطن، آخذة بالتمرد عليها، والعبث بمزاجها، فأشعرها ذلك بالضيق.

شغلها وجود العامل داخل المعرض، وهو يحمل بضاعة جديدة.
وأبهرتها البدلات بموديلاتها المتنوعة وما يتناسب منها مع كل الأذواق.
فكرت: انَّ ذوقها أهمّ من كل الأذواق، ما فائدة تلك الموديلات إذا لم تجد فيها ما يناسبها؟
القتْ نظرة سريعة على الدكَّة، مطّت شفتيها بمشروع ابتسامة، كان بودها ان تطبعها على الزجاج، لكنّها شعرت بأن رغبتها في التخيُّل لم تعد كما كانت، فقد بدت شاردة مرتبكة، لا تعرف ماذا تفعل.
وظلّت هكذا واجمة في مكانها، تنتظر متى تتحول ابتسامتها إلى ضحكة.

*كاتب عراقي