رمضان ومعاني الوحدة السودانية

إننا ولدنا متَّحدين بروابط الدم وروح المكان بهوية سودانية واحدة

  • السودان مختبرٌ حيٌّ لتجربةٍ فريدةٍ في بناء وحدةٍ قائمةٍ على احترام التنوع

د. عبدالله محي الدين الجنايني
في ضوء شهر رمضان المبارك، تتجلى في السودان صورةٌ مضيئةٌ عن وحدته وترابطه الشعبي وهي صورة لا يُمكن إختزالها في مناسكٍ دينيةٍ فحسب، بل تتجلى في سلوكٍ إجتماعيٍ عميقٍ يغمرّ القلوب بالحنين والترابط، ويُشكلُّ شهادةً على روحٍ حيةٍ من الكرم والوحدة الوطنية
يُعبر صيام السودانيين عن إيمانٍ راسخٍ وقناعةٍ عميقةٍ، تتجلى في سلوكهم اليومي. فإفطارهم في الشوارع، ودعوتهم للمارة إلى المشاركة في الوجبة، ليست مجرد عادةٍ، بل تعبيرٌ حيٌ عن الضيافة والكرم اللذان يُعدّان جزءًا لا يتجزّأ من ثقافة أهل السودان …إنها لقطاتٌ تُذهلُ من جمال الروحانية والانفتاح الاجتماعي، وتكشف عن الترابط والتكاتف بين أفراد المجتمع… ويُعزّز هذا الترابط من خلال تقاليد الكرم، التي تُمثّل روحًا من الضيافة والمساندة المتبادلة. يُشارك كلّ فردٍ بما يملكه، دون تمييزٍ أو حسابٍ، مُستذكرًا بذلك قيمة التكافل الاجتماعي؛ حيث تُعكس هذه العادات، في رمضان، العاطفة والترابط القويين بين أفراد المجتمع، من خلال تعزيز الروابط بين أفراد المكونات المتنوعة لشعب السودان
ثم، ينتقل الحنين إلى اللحظات الجميلة في أعياد نهاية رمضان الاستعداد لها، وعودة الوافدين من السفر، تتجلّى فيها الوحدة العائلية والأسريةووحدة أهل الحي الواحد بتنوع فبائلهم إنها وحدة الوجدان، ومشاركة الأفراح بين الجيل الجديد والقديم .. فتُعزّز هذه التجمعات القيم الاجتماعية، وتُسهم في بناء ترابطٍ قويٍ
وتُبرز هذه التقاليد صورةً حيةً عن مجتمعٍ متماسكٍ، يرتكز على قيمٍ ساميةٍ كالتوادد، والتراحم، والتعاطف, فهل يُمكن لهذا المجتمع المليء بالعاطفة والروحانية أن يكون أرضًا خصبةً للدعاية للحروب والاقتتال؟ هل من الممكن أن ينجح دعاة الفتنة والعنف في تحطيم هذه الروابط المقدسة؟
يتجلّى جواب هذا السؤال في ردة فعلِ السودانيين، في تلك الانتفاضة على كل من يسعى لزعزعة أمنهم واستقرارهم, ففي وجه محاولات زعزعة الوحدة الوطنية، يتّحد الشعب، مُعزّزًا من قوّة قواته المسلحة، ليحافظ على تراثه وأرضه. إنهم لا يدافعون عن وطنهم فحسب، بل يدافعون عن أسلوب حياتهم وقيمهم، وهذا دليلٌ قاطع على أهمية القيم الاجتماعيةوالمناسبات الدينية والترابط المجتمعي.
لا يُمكن أن تُقاس التضحيات الجبارة التي يؤديها الشعب السوداني في وجه التحديات إلا بصدقٍ وديمومةٍ على قواعد الترابط. إنها شهادةٌ عظيمةٌ على روحٍ قويةٍ، تُذكّرنا بأهمية التماسك الوطني، ودعمٍ قيميٍ مُؤسّسٍ على حبٍ للوطن، والولاء لبلادنا السودان.
وهكذا تدور رحى التاريخ تعزز من إعادة بناء جسر التماسك السوداني
فيصعد صوت التاريخ من أعماق دولة كرمة وبطن دارفور، يردد صدىً حزيناً على ضفاف النيل، يَتَسَاءل: هل نسينا من أين أتينا؟ هل انقطع جسر التماسك الذي بنته أجيالنا الأولى؟
لقد كان المجتمع السوداني، منذ فجر التاريخ، نسيجاً متيناً، لوحةً فنيةً من التنوع المتناغم, في قلب كرمة، وفي ضفاف نهر النيل المقدس وانتشرت حضارته شرقا وغرباً وامتدت جنوباً، و برزت حضارةٌ أرست قواعد التماسك الاجتماعي، وسَخّرت العادات والتقاليد لخدمة البناء الوطني, أقامت الدولة المُنظمة في فجر التاريخ، وشَكَّلت مجتمعاً مترابطاً، متَّحِداً في روحه، رغم تنوع أعضائه
ألم تكن هذه الروح من الإنتماء هي الحجر الأساس الذي بني عليه كل ما حققناه في الدولة السودانية عبر آلاف السنين؟
فإن حضارات النيل الأولى تخبرنا، حكاياتها المشرقة، كيف تَراكَمَت عادات الترابط والتعاون. إذ نحن لم نولد مُتفرِّقين، بل إننا كسودانيين ولدنا متَّحدين بروابط الدم وروح المكان بهوية سودانية واحدة
لقد سَخّرت هذه الروابط، التي ورثناها، كل الجهود لخدمة الوطن. هل نسينا كيف كان السوداني يمدّ يده إلى أخيه، يساند صاحبه، ويكتسب الجميع من قوة التعاون؟ هل تغير هذا النسيج الفريد الذي لطالما جمعنا تحت لواء واحد؟
أليست تلك الصور الماضية، من أجدادنا المخلّصين، التي نحتفظ بها في ذاكرتنا، هي التي تَحثّنا على إستعادة تلك الروح المتماسكة؟ أليست دموع الحنين ونداءات التراث العميق تَسقُط على قلوبنا من مآذن التاريخ وعيون ريناس وكل كنداكة وميرم؟ أين نحن اليوم من تلك القوة التي عززتها حضارات الأجداد؟
أين نحن من تلك الروابط القوية التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم؟,ألسنا شعب السودان؟
إن التاريخ الحديث يمسك بقلمه ليخط صفحة جديدة ويصرخ في آذاننا، ونداءه يوقظنا من غفوة النسيان… إن علينا إعادة بناء جسر التماسك هذا. علينا أن نُعيد النظر في أفعالنا ونتحرّك نحو مجتمعٍ متماسك، يتعامل مع تحديات العصر بِحِكمةٍ مُشَترَكة، وقدرةٍ مُتَكامِلَة. أن نُحيي عاداتنا التراثية التي كانت سنداً لنا، ونصنع مستقبلاً مشرقاً بِروح التّعاون والتّكاتف. فالسودان، لا بد، أن يُعيد بناء نفسه من جديد، على أساس قوّة تراثه
لقد حان الوقت لنسير معاً، بِروحٍ جديدةٍ، منصهرين في هدف واحد .. ولنتذكر أن السودان ينتظرنا، يا أبناء هذا الوطن. لنعيد بناء جسر التماسك، ونُشعل شرارة الأمل في كل بيتٍ، ونتذكر من أين أتينا؟
هذا السؤال لا يُطرح بوصفٍ حالمٍ، بل كفرضيةٍ منطقيةٍ قابلة للتحقيق، تستند إلى فهم عميق لإرث السودان الغني وتوظيفٍ ذكيٍّ لقدراته المستقبلية. فالسودان، بامتداده الجغرافيّ الواسع وثرائه الثقافيّ المتنوع، ليس مجرد أرضٍ خصبةٍ، بل هو مختبرٌ حيٌّ لتجربةٍ فريدةٍ في بناء وحدةٍ قائمةٍ على احترام التنوع، وذلك عبر اندماجٍ إبداعيٍّ بين علم المنطق والفيوتشرلوجي.
لم يُكتب التاريخ السودانيّ على صفحةٍ بيضاءٍ. بل هو سجلٌ حافلٌ بالصراعات والتحولات، لكنه أيضاً مليءٌ بالقصص الرائعة عن التآلف والتسامح, فالتعايش بين القبائل المختلفة، على الرغم من إختلاف لهجاتها وبعض عاداتها، يشهد على قدرة السودانيين على بناء جسور التواصل عبر القرون, هذا الإرث، الذي غالباً ما يُغفل عنه وسط التركيز على الصراعات الحديثة، بل هو حجر الأساس الذي ينبغي بناء المستقبل عليه
فالفرص القادمة تحتاج إلى تطبيق منهجيةٍ علميةٍ، ليمكننا إستشراف مستقبلٍ واعدٍ لسودانٍ موحدٍ، يستند إلى.
أولاً : اقتصادٌ متنوعٌ ومستدام:
يُعرف السودان بثرواته الطبيعية الهائلة، من الذهب والبترول إلى الأراضي الزراعية الخصبة. ولكن، يجب أن ننتقل من إقتصادٍ قائمٍ على إستخراج الموارد إلى إقتصادٍ معرفيٍّ قائمٍ على الابتكار والتنويع. هذا يتطلب استثمارًا هائلاً في التعليم والتكنولوجيا، وخاصةً في مجالات الزراعة الحديثة والطاقة المتجددة
ثانيا : بناء مؤسساتٍ قويةٍ وعادلة:
لا يمكن تحقيق الوحدة إلا بوجود مؤسساتٍ قويةٍ تحكمها قواعدٌ دستوريةٌ واضحةٌ، تضمن المساواة والعدل للجميع، بغض النظر عن الجهة والمنطقة أو غير ذلك. هذا يتطلب بناء شاملًا للمؤسسات العدلية وللقضاء والشرطة، وتعزيزَ حكم القانون، ومحاربة الفساد.
ثالثا :ثقافةٌ مشتركةٌ تحترم التنوع:
يجب أن نُركز على بناء ثقافةٍ سودانيةٍ جامعةٍ، تُحافظ على خصوصية كل ثقافةٍ فرعيةٍ، لكنها في الوقت نفسه تُعزز الهوية السودانية المشتركة. هذا يتطلب إستثمارًا في الفنون والثقافةوبناء إعلام قوي يظهر وجه السودان خارج الوطن ويسهم في البناء الوطني الداخلي بعلمية ووطنية ويكون هدفه الرئيس هو التربية الوطنية، وتشجيعَ الحوار والتواصل بين مختلف المجموعات، وإعادة كتابة رواية التاريخ السوداني لتعكس حقيقة التعايش والتكامل.
رابعا :التكنولوجيا كعامل توحيد
يمكن للتكنولوجيا الحديثة، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والتعليم عن بُعد، أن تلعب دورًا حاسمًا في ربط مناطق السودان المختلفة، وتعزيز التواصل بين مواطنيها، وتسهيل الوصول إلى المعلومات والفرص
إن تحقيق هذا المستقبل ليس مهمةً سهلةً، ولكنه ليس أمرًا مستحيلاً. فبالتخطيط الجيد، وبتبني نهجٍ مدروسٍ يستند إلى المنطق والفيوتشرلوجي، وبوجود إرادةٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ، يمكن لسودان الغد أن يصبح نموذجًا يحتذي به العالم في وحدةٍ متماسكةٍ، تُشكل قفزةً نوعيةً نحو مستقبلٍ مزدهرٍ لجميع أبنائه. ولنكن صريحين: المستقبل ليس مجرد مصيرٍ مُقدر، بل هو خيارٌ نُحدده بأيدينا