في ذكرى الصحفي الهدي الرضي 

بُعْدٌ .. و .. مسَافَة _ مصطفى ابوالعزائم

 

 

*( ياسلااااام ) عبارة وجدتها تنطلق من داخل نفسي إلى خارجها بالصوت العالي ، وأنا أتلقى بالأمس رسالة من أخي وإبن أخي العزيز الأستاذ عوض حسن ، الشاب النشط الأمين العام لإتحاد الشّباب العربي الإفريقي ، وهو يبعث إلي فيها بمقال كتبه أستاذنا وأستاذ الأجيال الكبير الدكتور عبدالسلام محمد خير ، بمناسبة وفاة أستاذنا وزميلنا ، الأستاذ حسن الرضي الصديق ، أحد أبرز وأفضل من تولوا مسؤوليات العمل في سكرتارية تحرير الصحف ، وتمر هذه الأيام الذكرى الرابعة عشر لرحيله .. أعيد نشر المقال وأحيي ذكراه وأترحم على روحه الطيبة ، وهذا المقال نشر بعد رحيله في مثل هذه الأيام من العام 2010 م

 

(حسن الرضى) .. صناع الصحيفة

 

*قرأت ما كتبه رئيس التحرير الأستاذ مصطفى أبو العزائم والصحافى الغيور صديق البادي فى هذه الصحيفة عن رحيل الصحافى الخلوق حسن الرضى عليه رحمة الله، وبقيت انتظر المزيد عن إنسان من صناع الإبداع الذي يؤهل الصحيفة للتميز والمنافسة والتأثير فتتخاطفها الأيدى (على الريق)، هاتفت أحد المهتمين بالتوثيق للصحافة السودانية (الأستاذ محمد الشيخ حسين) ، عله يكون رصد المزيد مما كتب عن صحفي له تلاميذ ، ومهني له دور متميز في صناعة الصحف ، وقد ازدهت اليوم لتذكرنا (أيام حسن الرضي) ، ورواد التصميم والإخراج ، ومن أرسوا ركائز المطبخ الصحفي في السودان، تحدثنا عنهم بشغف وإعزاز ، وتمنينا أن يبادر من ينصفهم بالتوثيق والعرفان ، كفئة من فئات الإبداع في البلاد ، وممن يضربون المثل في خاصية (العمل في صمت)- نعم في صمت- عايش المرحوم حسن الرضي تجربة (العمل في صمت) ، منذ أن كانت الكلمات تجمع حرفاً حرفاً ، ويتم التصميم الصحفي عبر المقص ، وعلى أيدي أفراد أشبه بالصاغة ، تدب خطواتهم بلا كلل ، وطوال الليل بين المطبعة وغرفة التصميم ، وذلك قبل أن يصبح هذا العمل الشاق اليوم كالعزف على البيانو، بفضل اكتشافات التكنولوجيا .. والقصة طويلة وأشبه بالأساطير .

*رحل حسن الرضي في خواتيم العقد الأول من هذا القرن الصحفي المولع بالإبهار ، وكأنه يقول إن مهمته وجيله قد إنتهت ، بعد أن أسلموا مهام الإخراج الصحفي لتكنولوجيا العصر ، حيث صحيفة بالكامل تطبع وتصمم في ساعات محدودة ، وفي أبهى صورة .. شكراً يا ذلك الجيل ، غشيت الرحمة من لبوا نداء الرحيل ، والخلود تاركين بصماتهم تتحدث بفضلهم ، وفي أعز المهن وأكثرها إرتباطاً بالناس ، وهم يبدأون يومهم، أي شئ أعظم من أن يترك الإنسان لغيره أثراً لعمل خلوق ، ومؤثر ، وقابل للإضافة ، والتطور ، والمزيد من الإزدهار ، وإسعاد الناس؟ .. إني كلما تذكرت بداية معرفتي بحسن بصحيفة (الأيام) منتصف السبعينيات ، كلما اتذكر كم هو رائع أن تتعرف على شخص يحب عمله ومستعد ليفهمك ويساعدك دون أن يشترط عليك سابق معرفة ، هذا انطباعي يوم لقيته لأول مرة ، وبيدي مقال للنشر أحرص على أن يخرج للناس في أجمل صورة، والأستاذ مصطفى أبو العزائم يصنفه (أحد نجوم صحافة الخرطوم ) وأنه ( كان أحد أعلام ركائز سكرتارية التحرير في الصحافة السّودانيّة ، التى أعتبرها علماً قائماً بذاته له مناهجه ومدارسه ، وكان يتمتع بعقل مرتب ، وذاكرة تختزن مواقع الصور في الأرشيف ، وأرقامها ونوعية الخطوط المستخدمة ، قبل أن يسهل هذا الأمر بإستخدام أجهزة الحاسوب الحديثة).

*وهكذا عرفته أيضاً وكنت أسميه (الصائغ) وأنا أرى كيف أن الكلام المكتوب بخط اليد يتحول إلى سطور أنيقة بأحرف منوعة ، وخطوط جذابة ، وصور إتخذت مواقعها بأنامل سحرية ، تدل على العلاقة (الهارموني) بين سكرتارية التحرير ، وعناصر المكتب الفني المختلفة .

*وكأنه كان على علم بشروطي للنشر في الصحيفة التي أكتب لها ، فبالإخراج يحيا المقال أو يموت ، وبهذه القناعات يعمل التلفزيون ، وتوضع المناهج الحديثة لكليات الإعلام ، حيث الشغل الشاغل هو الإطار والتصميم والإبهار ، فجانب (الموضوع) متاح على الورق و(النت) ، والمهم هو كيف ( يخرج) للناس ، وقد اعتادت عيونهم على جماليات الشاشات ، وفنون العرض ، وفضائل الجودة، إهتمامي بجانب (الإتقان) هو ما عزز علاقتي به بجريدة (الأيام) ، وعلاقاتي بالمكاتب الفنية للصحف التي كتبت لها ، إلى أن جاء عصر التكنولوجيا وألزمنا البيوت ، نرسل ما نريد للمطبعة عن طريق الحاسوب ( الإيميل) ، إرتحنا ، ولكن على حساب أنفاس (مشوار زمان) للمطبعة ، وأشواق رؤية (الجنود المجهولين) ، ومتعة أن تشهد كيف تولد الصحيفة .

*ظل حسن الرضي رمزاً للعلاقات المهنية الأليفة المنتجة لروح العمل (نفس الشغل) ، يجبرك على إحترام ( مهنيته) ، لسبب بسيط هو أنه ( يؤدي كل مهمة توكل إليه بهمة عالية) ، وهذه من الشهادات التي أوردها (صديق) ، وتعمد أن يوثقها من جهة قضائية ، ومنها أيضاً أنه (يستغرق العمل كل وقته وجهده ، ولكنه زاهد ولا يرغب في امتلاك أي شئ في الدنيا)، ونسب ذلك لمولانا القاضي الذي عرف حسن عن قرب ، وصديق البادي الذي عرفناه من مقالاته ، ليس أقل إنصافاً من القضاة ، ومن أقواله التي تشبه الأحكام، حسن الرضي عرف بأنه كان عاشقاً لعمله الذي يجري حبه في عروقه مجرى الدم ، أول من يحضر لدار الصحيفة ، وآخر من يخرج ، كان كشجرة البنفسج التي يشم الناس عبيرها الفواَّح وأريجها الطيب ، دون أن يراها ، يأخذ أقل مما يقدم ويعطي ، أمضى فى الصحافة خمسين عاماً ، ولم يجد تكريماً يليق به) – (آخر لحظة) 14 مارس – وهذا مطابق لما كنت عرفته عنه ، ومنه أيضاً أنه كان من خير ما قدمت الأقاليم للمركز ، ووجدت في ذلك عزاء ، خاصة وقد سبق أن انفرد أبوالعزائم الإبن بشهادات أخرى ، منها أنه (كان مرجعاً لنا) 11 مارس ، وحين أرى الناس صباحاً بالمكتبات يتسابقون على إقتناء صحيفتهم المفضلة ، يعجبني ذلك ، واتمنى لو أنهم تعرفوا على دور هذه الهيئة الإبداعية (السكرتارية والمكتب الفني) التي تصنع كل الفرق بين صحيفة وأخرى، هناك كتب خرجت للناس تعرفهم بهذه الآلية الساحرة التي تعمل في صمت ، فرأيت فى ذلك أبلغ الوفاء لسيرة حسن الرضي وأترابه ، ممن عرفنا فضلهم في صناعة الصحف (في صمت) ، إن(صناعة الصحيفة) هي الآن علمٌ يدرس في الجامعات ، والأستاذ محمد حسنين هيكل كتب مقدمة لأحد هذه الكتب ، كدليل على علو شأن هذا النفر من صناع الجريدة ، وقربهم من رؤساء التحرير والقيادة العليا للتحرير، الذين يمضون الليل ساهرين من أجل اللمسات النهائية ، للصفحات التى سيلتهمها القارىء بعد قليل ، أو يدير ظهره.