شتات

بقلم : هيثم همامون / المغرب
كان صمت الطفل الصغير مريبًا. متخاذل المشية، ذليل القسمات، تتلوى يده على بطنه الصغير تحت جلباب تعلوه بقع الوحل والرقع. حدّق فيه الشيخ مليّا، فعدّل من مشيته. يستبين الطريق في احتراس. التمس منه الإجابة لكن لم يجبه. طرق الشيخ فيه بعينيه طويلا ثمّ انكمش في جلبابه واقفًا فوق الرّصيف. فقد كان جائعًا، بل كان كلاهما جائعين. سقطت برتقالة من عربة بائع متجوّل. خرجت تتدحرج قاطعة الطرّيق إليهما. وما إن أبصراها حتّى أخذتهما قشعريرة، ولهفة. سرعان ما ركضا نحوها في زحام المارّة الذي يسدّ الطّريق. غمغم الطفل بكلام مبهم، وصل إلى أذني الشيخ شتات “ت…فا…حة”.
تسمّر الشيخ في مكانه لبرهة. والطفل يداعب حطام خردة بخفيه القديمين في شّارع مزدحم، والأنظار تلعب بثوبه المتهتك البالي. راقبه الشيخ في انتباه. تهتزّ صفحات وجهه بين الحين والحين تحت رهبة رذاذ أعين الناس الغامضة. تابع ظلّه الشارد سيره. يتلفّت كأن يدًا قاسيًّا تصهره بين أضلاعها، تهتزّ، تتحرّك، غائمة، ثقيلة…رمى الشيخ بجسمه أخيرًا على الرصيف، ثم جلس. أما الوجوه فلا تدري أ شفافة هي حقًّا أم سديم؟ التفتَ فإذا الطفل قد هبط في حفرة وسط الطّريق، ثمّ تجاوزها في شرود. نظر الشيخ إليه في صمت. مسح الطفل لعابه المتسايل على فمه، ودعك أنفه المنفش.
تنهّد الشيخ ووضع مرفقيه على ركبتيه، ثمّ تطلّع إليه بعينين مرهقتين، يعلوهما غبار، وكآبة. وإذ به يلتفت حوله باحثًا عن شيء، وجعل يتحسّس وجوده بين آلاف مصابيح الوجوه الشحيحة. لكنه سرعان ما يستأنف المشي ضد الجاذبية، ويداري خوفه. تتقلّص شفتاه ببراءة، ويبتسم. قال بصوت مرتجف:
– تفّا…حة…تفّا…حة
هتف الشيخ الغريب:
– لا، لا إنّها…برتقالة…برتقالة
طال ترداد نظر الشيخ طويلا. فجأة وقع الطفل الصغير متهالكًا على الأرض مثخنًا بجراح طفيفة في ركبتيه ويديه. استطاع أخيرًا أن يتجاوز الطّريق. واستأنف السير على الجانب الآخر يبغي الفاكهة الّتي توقّفت على مقربة من مجمّع ماء صغير ميمنة الشيخ. وقبل أن يلتقطها، خطفتها يد بازي عجوز. فامتقع وجهه الضئيل يرعى السماء وقد تبعثرت فيها خيوط الشمس المتألقة، ولا يدري أين اختفت التفاحة. رفع عينيه الحزينتين قليلًا إلى حيث بقع الأمان المفقودة. ثم فاجأته سعلة هزيلة متصلة، ينفلت منها بالكاد صوت خافت في غير وضوح، ذرات هواء ضخمة لا تمرّ، وضوء شمس يكسر غبش المكان. بدا كأن روحه تطحن في مهراس معدني محدود، كلّما هبط العمود الحديدي، يرتفع هرير الأنفاس. ثم يرمي الجميع بنظرات سقوط أوراق الخريف من الشجر. فيما كان آخرون يجلسون على فخذ أمّهاتهم. تحضنهم أيد دافئة، وتمسح على رؤوسهم.
أرسل نظرة إلى جميع الأبعاد، ثم قال:
– ت…ت…
كان الصوت فيلًا يستعصي عبور جحر فأر. انعطف بنظره إلى بعض الأطفال وهم يتراقصون، التفت، ثمّ كرّر حروفا متقطّعة. ارتفعت قهقهات الصبيان في استفزاز. يتطلّعون إليه بعيون ساخرة. رمقهم بحرقة، وهتف الهواء الصامت في حنجرته، فاحمرّ وجهه خجلا، ارتبك، ولم يدر ما يفعل. صفّروا، دقّوا الأرض بأقدامهم بتهكّم. ارتعدت مفاصله، وكاد يسقط على الأرض.
أحسّ نفسه قصيرا يكاد ينقصف، حركات عينيه لا تستقرّان على شيء، حين يضبطهما تطيران مذعورتين نحو المجهول. أغمض عينيه الضيّقتين. وقف. ارتجفت ركبتاه. وبدا قصير القامة أكثر فأكثر. صعدت حشرجة البكاء ولم تنهمر. ابتعد عن الأطفال، واحتفظ بيده الهاربة وراء ظهره. لم يعانق بها أحدا قطّ. يسمعهم…لكن لا يثور. علا بصدره يملأ رئتيه بالهواء أكثر مما ينبغي في صمت. وأخذ الشيخ يقشر البرتقالة في لهفة، ثمّ اتّكأ على جدار أبيض عالي ورعى بعينيه الطّفل، ثمّ أخد يأكل صنوف البرتقال، وهو ينظر بينه وبين الطّفل. بقي صنف برتقال أخير، تردّد لبرهة ثمّ مدّه للطّفل. بقيت أصابع الطفل تلازمها الرعشة طويلًا. ثم احتضن صنف البرتقال الأخير بين أصابعه في عنف ثمّ عصره. فإذا مشيته أخذت تضمحلّ على الأرض حتى شعر أنه لم ينتم إليها حقا.