تباريح زمن الريح (١-٢)
على عسكوري
*لا يدهشني تكلس وعقم الحركة السياسية حاليا. عملت وسط هذه القوى يمينا ويسارا لعقود، وانتهيت إلى أنها مصابة بعجز فكري مستوطن، مقيم وراسخ.
*رغم ان بلادنا تمر بحرب وجودية تكاد تعصف بها تماما، إلا أن القوى السياسية عجزت بالكامل عن توحيد رؤيتها لطرح فكرة جامعة تلم شعثها لإخراج البلاد من المخاطر الحالية.
*ماتت أفكار التغيير برحيل قرنق والترابي. والرجلان اختلفت او اتفقت معهما كانا يحملان فكرتين محددتين وإن كانتا متناقضتين.
الترابي رأى ان الإسلام يمكن أن يوحد السودانيين ولذلك طرح مشروع الدولة الاسلامية وحشد مناصريه وتلاميذه واتباعه لتنفيذ فكرته وشن حربا جهادية على جنوب السودان خسرها في نهاية المطاف وانتهت بفصل الجنوب كما هو معروف. مرة اتهمه الجنرال البشير بفتح جبهة الحرب في دارفور عن طريق حركة العدل والمساواة التي تزعمها الراحل د. خليل إبراهيم أحد تلاميذه الموثوقين. وسواء أن صحت اتهامات الجنرال البشير أو لم تصح، فقد اندلعت الحرب في دارفور وما زالت مشتعلة.
*ما يمكن قوله أن الترابي كان له تصور لدولة دينية متطرفة تصادمت في منهجها وطريقتها وممارساتها مع طبيعة المجتمع السوداني المتسامح دينيا وهو ما أضعفها. في نهاية المطاف سعى الترابي نفسه لتقويض أركانها ونفض ما غزلته يداه. اكبر دليل على ذلك مشاركة أنصاره بقوة في الحراك الذي أسقط نظام الجنرال البشير الذي كان امتدادا للدولة التي أسسها. لم تسعف الرجل الأيام ليرى نجاحه في تقويض بنيان دولته التي بذل الغالي والنفيس لتأسيسها وافنى عمره سعيا وراء قيامها، فرحل مخلفا قدرا هائلا من الفوضى السياسية.
*أما قرنق فقد كان له تصورا مناقضا لتصور الترابي، فقد رأى أن الإسلام لن يوحد السودانيين، وان هناك تهميشا في السلطة والثروة لمجموعات كثيرة، وأن الدولة يجب أن تكون محايدة تجاه الأديان ، وأن الحل في دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات. لم تسعف الأيام قرنق ايضا ليرى قيام دولة في جنوب السودان لا تزال تبحث عن هوية وفكرة تجمع قبائلها ومجتمعاتها.
وهكذا تمخض صراع الفكرتين إلى وجود دولتين فاشلتين لا يوفران استقرار ولا أمن ولا تنمية.
*لم يطرح من سبق الرجلين من الساسة فكرة محددة، واعتقدوا أن دولاب الدولة ومؤسساتها وأجهزتها التي خلفها الإنجليز كافية للنهوض بالبلاد، فانتهوا إلى أجهزة دولة تكرس الاستعمار الداخلي فقط.
*رغم كل ذلك، كانت تلكما هما الفكرتين اللتين دار حولهما الصراع المميت وأفضيا بنا إلى دمار جنوبا وشمالا والحبل على الغارب ولا تزال معاول التفكيك التي نتجت منهما تعمل.
* أخطر ما نتج من ذلك الصراع الشرس هو فقدان المواطنون في الشمال والجنوب الثقة في دولتيهما و اصبح الجميع يبحث عن دولة بديلة توفر في حدها الأدنى الأمن والاستقرار.
*مليشيا الدعم السريع في جوهرها تعتبر أحد أهم نتائج حرب الجنوب وصراع قرنق والترابي. فإن اتهم الجنرال البشير الترابي بتأسيس حركة العدل والمساواة وذكر صراحة أنها تمثل الجناح العسكري للمؤتمر الشعبي (حزب الترابي)، فقرنق ايضا تدخل في دارفور منذ فترة طويلة عن طريق الراحل المهندس يحيى بولاد ثم حركة تحرير السودان قبل انقسامها. تلى ذلك تناسل حركات دارفور حتى قاربت المائة حركة والحبل على الغارب.
*لكبح هذه الحركات المتناسلة – وهى ظاهرة غريبة لا أعرف لها مثيلا في التاريخ- أسس الجنرال البشير مليشيا الدعم السريع وباقي القصة معروف.
*وهكذا خرجت الدولة من حرب الجنوب لتدخل في (حروب) لا حصر لها في دارفور أفضت بنا الى ما نحن فيه.
*حيال هذه الحروب والكوارث الاجتماعية والسياسية، تقف كل القوى السياسية والاجتماعية عاجزة تماما، بلا فكرة محددة تتشاكس فيما بينها، بعضها اصبح يستقوي بالأجنبي والبعض الأخر هاجر خارج البلاد يجتمع وينفض بناء على دعوات القوى الخارجية، يكرر نفس الأفكار القديمة ثم ينفض، ليعود مرة أخرى لاجتماع آخر ليكرر ذات السيمفونية البالية، ثم يغط في نوم غير مهتم بدوي المدافع والراجمات.
نواصل