أوسمة المقاومة : قراءة في علاماتيّة أغنيات أبو عركي البخيت(١-٤)
دكتور فضل الله احمد عبدالله
لو لم تبق غير الجراح ،
فالتكن الجراح الأوسمة ؟
لو لم تبق غير الدموع ،
فالتكن الأنهار ، لا البرك مهيضة الجناح .
لو لم يبق غير السوط ،
فاليبدأ الإذلال العام .
*تلك الصورة الكلامية ترقد على خزانة لا تنضب من العلاماتيّة ، وتُعد من التصورات الذهنية التي شكلتها الحساسية الإبداعية للكاتب البروفيسور عبدالله علي إبراهيم ( جرياً على لسان كورس نساء القرية في نص مسرحيته – الجرح والغرنوق – والتي كتبها بين عامي 72 – 1973م وفقاً لإشارة الناقد السر السيد في دراسته : مسرح عبدالله إبراهيم )
*والجرح والغرنوق – عنوان النص المسرحي – هي علامة أو إشارة أطلقها الكاتب حرّة معتقة تسبح في خيال المتلقي دون أن تحبسها قيود المعاني المتوارثة والسياقات المحددة .
* كما أنها أكثر العناونين – حسب السر السيد – شاعرية ورمزية ، خاصة عند ما يكون الجرح نبيلاً ، ويكون سببه أكثر نبلاً كطائر الغرنوق الأبيض الذي يملأ الفضاء وضاءة واعتداداً ، عف المنقار لا يغمسه في كل سانحة من طعام ، كأنه يعيش على الندى والأريج ، فما بين الجرح والغرنوق عنوان المسرحية حضور الوطن ، دلالة ورمزاً وحلماً .
*وذلك الحضور بدلاليته وسيميائيته ، من تيمات أو المضامين الملتمعة في منجزات جيل الستينيات من المثقفين المبدعين في مجادلاتهم وحوارتهم – أوانذاك – المستقيمة التي لا أعوجاج فيها .
*كما هو شأن المثقف ، والمثقف في لسان العرب هو صفة الرمح ، التي تدل على صلابته وقوته وخلوه من أي تشوه أو انحراف .
*وهذه الصفة في تقديري هي المدلول الذي نلتمسه في تأويلات عصرنا هذا ، ليشير إلى الوظيفة التي يؤديها المثقف المبدع ، وفق أدواته وانشغالاته الذهنية في إنتاج شخصية الفرد والجماعة وأن يعمل على تحسين شروط حياة الناس . ويؤهل الوعي لاستنطاق التنوع والاختلاف مزوداً ، بذلك معارف الناس ، بما يثريه ويمدّه بالحياة .
*وعند تلك الخاصية أو المعنى نفسه ، في منتوجات الفنون ، يقف هذا المقال ووفقاً لمنطوقات العنوان أعلاه ، وما تلتمع فيه من فرضية أو دلالة في قراءة حالة إبداعية في غاية الحساسية الفنية ، شاهدا عليها .
*حالة فنان سوداني تميز في مساره الإبداعي ، بصلابته المبدئية ، وقوة عزمه ، واستقامته الجادة علي الطريق الذي أختطه لنفسه ، دون أنزلاق أو انحراف ، خاليا من أية تشوهات .
*هو الموسيقار والمغني المطرب ( أبو عركي البخيت ) سيد المكارم ، وصوت من أصوات الثقافة السودانية الشاهقة القمم ، وأيقوناتها المتجلية بلا منازع ، الذي ملأ الفضاء الإبداعي ، وضاءة واعتداداً .
*عف مثل طائر الغرنوق – في فرضية عبدالله علي أبراهيم – لا ينغمس في كل سانحة من الموائد ، ولا ينتقي إلّا ما يروق له ، أو تطمئن نفسه عليه ، من نداوة الأشياء وأطهرها .
* أبو عركي البخيت ، الفنان النجيب ، الذي عرف مبكراً ، ما يريد لذاته من أدوار ووظيفة ، فوهبه كيانه ، مؤمناً بأن مثاله الإبداعي المبتغى يبتعد ، كلما بدا قريباً .
*فقد أنجز فن التطريب العالي المقامات ، المتشبع بالأصالة ، مستندا علي علم فنون الموسيقي والأداء الصوتي ، وفق منهجياتها الأكاديمية الصارمة في شروطها ، وأسس قواعدها ونظرياتها العلمية ، وموهبة فذة حاذقة ، أمتاز بها ، حيث قام بتوظيف مكامن القوة والإبداع الطبيعية عنده ، ومن ثم ، لجأ الي مخاطرة أخري ، بأن نحت مفرداته الموسيقية ، وكلماته الخاصة ، التي مكنته من التعبير عن عوالم جديدة بالغة الجمالية ، عميقة الموضوعية ، وكان ذلك معينه في مسيرته الإبداعية ، بحثا عن الحقيقة ، ومقارعة للأيام ، ومغالبة المحن والرزايا .
*ومميزا نفسه في نوعية جمعت بين جماهيرية الغناء ، إذ ، للأغنية جمهور ينتظرها ، فالأغنية عنده ترتكز على الأسس المكونة لقوامها – علماً وفلسفة ورؤية – ولعل ذلك كله ، هو ما أوجد تلك الثنائية المتفردة بين أبو عركي والجمهور .
*فالجمهور المتلقي لأبو عركي البخيت ، هو نفسه جمهور خاص ، عاش تجربة الفنان ، وصاغ حدودها معه ، ونظم معه ذلك العقد من منظومة العلامات الصارمة في توليد دلالاتها ، مثلها مثل ، إشراقات الصوفية المستبطنة التي لا ترى في المرئي والظاهر في الحس العادي ، ولكن يتجلي عندها الماورائي في الأشياء ، وتنظر في ما لا تراه الأبصار .
*فهو محكوم بمرجعياته وحدوده وقوانينه وضوابطه الذاتية التي تشكلت عنده وأسهم في تأسيسها مع الفنان .
*بهذا فقد تحول أبو عركي البخيت نفسه من حيث لا يدري ولا يدري إلى حالة سيميائية ، أو العلامة الأساسية ، والأيقونة المولدة لأنساق منظومة شبكة السيمائيات التي يستند عليها الجمهور في فك شفراتها .
*فكل كلمة ، وكل جملة ، أو نغمة موسيقية لحنية ، ليست سوى سر يحيل إلى سر آخر ، وهذا النموذج هو ما عبر عنه أمبرتو إيكو، في تفسيره ــ التأويل بين السيميائيات والتفكيكية ــ فكلما اقتربنا من هذا السر ، وجدنا أنفسنا أمام سر يحتاج إلى سر آخر .
*والأغبياء وحدهم هم الذين ينهون الصيرورة قائلين : لقد فهمنا ، فالشيء الصحيح هو الذي لا يمكن شرحه .
*وتلك المتاهة في تقديري ، سر تلك الثنائية المتناغمة بين أبو عركي البخيت والجمهور .
كما أن علو مدارج الإنسانية في جوهريتها الصميمة هي من أكثر ممسكات تلك الثنائية المدهشة.
نواصل