
مرحى لكرة القدم
خارطة الطريق _ ناصر بابكر
. يدرك كل عشاق ومحبي كرة القدم، أن حكاية اللعبة التي تمارسها أكثر من “200” دولة حول العالم، أكبر بكثير من مجرد “جلد مدور” يتنافس حوله “22 لاعبا” على مدار “90 دقيقة” بحثا عن فوز أو تفاديا لخسارة.
. الملايين من عشاق اللعبة حول العالم، يدركون الأدوار التي تلعبها كرة القدم، كسفارة شعبية، تحمل رسالة ومضامين، وتستطيع أن تفعل ما تعجز عنه السياسة وبقية ضروب الحياة، وأن تحقق من الأهداف ما يفوق الخيال.
. وإن كان ما سبق معروفا بحكم الثقافة العامة والإطلاع والمعرفة، فإن الإثارة الحقيقية تكمن في أن تعيش وتحيا تلك التفاصيل وتشاهدها واقعا معاشا، وهي تجربة تعيشها أكثر البلدان التي تغرق في بحر الخلافات السياسية، والأزمات الإقتصادية، والسيولة الأمنية، حيث يحاصر الناس الموت، وتكون كرة القدم هي التي تهبهم الحياة، وتحيط بهم الأحزان، فتكون كرة القدم هي المتنفس الذي يفتح أمامهم نوافذ الفرح.
. صحيح أن منتخب السودان لم يكن في أفضل حالاته، وصحيح أنه أنتصر على النيجر في أولى جولات تصفيات أمم أفريقيا (المغرب 2025) بعد معاناة، وهي معاناة تثبت أن الناس في كرة القدم يقاتلون ويعانون لأجل زرع الفرح، واسعاد الأمة، وفوق ذلك توحيد الشعوب التي تفرقها السياسة.
. فبحكم الجغرافيا وبأمر الساسة، كان السودان يلعب “افتراضا” خارج “أرضه” وبعيدا عن “جمهوره”، كون المباراة لعبت في عاصمة جنوب السودان، لكن ملعب “جوبا الوطني” كان شاهدا من جديد على الوحدة التي تصنعها كرة القدم، فكان أرض أفراح السودانيين على صعيد المنتخبات والأندية، وهي أفراح لعب الشعب الجنوب السوداني دورا بارزا فيها، بعد أن منحوا السودان، منتخبات وأندية، من الدعم، والتشجيع، والسند، والحب، ما تعجز الحروف عن وصفه، وكانت الصور والمشاهد أبلغ من الكلمات، لتحكي عن “وحدة، َوحب، ووجدان مشترك” تصنعه كرة القدم، مسجلة عشرات الأهداف في شباك الساسة والسياسيين، ومبرهنة على أن كرة القدم تصلح ما يفسده الدهر.
. فبعد “13 عاما” على انفصال جنوب السودان الذي أعلن رسميا في “يوليو 2011″، كانت كرة القدم شاهدة على وحدة الشعبين، وهي وحدة لم تفرقها حدود الجغرافيا، ولم تفسدها قرارات الساسة، وكلما حدثت هوة في العلاقات، كانت كرة القدم على الدوام جاهزة لردمها، وكلما تحدث أخطاء، كانت كرة القدم جاهزة لعلاجها، وكلما تباعدت المسافات، كانت كرة القدم حاضرة لتقريبها.
. ومنذ “أبريل 2023″، بلغت معاناة السودانيين مداها، كان الموت يطاردهم في كل الأرجاء، بالرصاص، بالجوع، بالمرض، بالسيول والفيضانات.. كانت أخبار السودان تدور حول المعارك الحربية، السياسية، الأزمات الإقتصادية، المشاكل الدبلوماسية، الصحية، النزوح، اللجوء، والمعاناة هي القاسم المشترك.
. وفي خضم تلك الدائرة الجهنمية التي تحيط بها الأحزان من كل جانب، كانت كرة القدم هي نقطة الضوء في آخر النفق، كان السودان يعبر وينتصر بالرياضة، وبالإرادة الرياضية، بالمنتخبات، والأندية.
. في ظل نشاط محلي متوقف، وأسر تعاني، كان منتخب السودان يصنع ما يشبه الإعجاز، المنتخب الذي كان يعاني قبل الحرب، يحقق نتائج سيئة على كافة الأصعدة، تحول بما يشبه السحر إلى صانع للفرح، مانح للأمل، بات دواء أمراض السودانيين، ومصدر سعادتهم الأوحد، محققا سلسلة نتائج في فترة الحرب، لم يحققها طوال تاريخ السلم، بإنتصارات متتالية، ليجلس حتى اليوم (أمس) “الرابع من سبتمبر 2024” على صدارة مجموعته بتصفيات كأس العالم، بعد مرور أربع جولات، وصدارة مجموعته في تصفيات أمم أفريقيا وإن كانت صدارة “مؤقتة” في إنتظار جولة الغد (اليوم) بين غانا أنغولا.
. في الوقت الذي يخسر فيه السودان البلد على كافة الأصعدة، كانت كرة القدم السودانية عصية على الهزيمة، في الوقت الذي تسقط فيه البلاد في هوة الصراعات، كان صقور الجديان يحلقون بالعلم السوداني والشعب السوداني في سماوات الفرح، ويهدونه الفوز تلو الفوز، محققين أربعة انتصارات متتالية سبقها تعادل في آخر خمس مباريات تنافسية على صعيد تصفيات المونديال وتصفيات (الكان)، ليكون البلد صاحب اسوأ أوضاع سياسية وأمنية واقتصادية وصحية، هو البلد صاحب أفضل نتائج على صعيد منتخبات كرة القدم، دون إغفال ترقي القمة السودانية إلى الدور التمهيدي الثاني من دوري أبطال أفريقيا، وايضا بلا هزيمة.
. لذا، تبقى كرة القدم لعبة متفردة، مختلفة، لا يمكن حصر الأدوار التي تلعبها، ولا وصف روعتها، وقيمتها، كما لا يمكن مقارنتها بشتى ضروب الحياة، ولو كان هذا “الحديث” معلوما ويدعو الرياضيين للفخر، فإن من “يعيش” هذا الواقع، وتكون كرة القدم بالنسبة له هي “الحياة في زمن الموت” و”الفرح في غمرة الأحزان” و”الأمل في حقبة سوداء” يكون شاهدا على كرة القدم كما يجب أن تكون.
. مرحى لكرة القدم وهنيئا للسودان بصقور الجديان.