حكاية التراب.. دراما المسكوت عنه

بعين مفتوحة 

خالد البلولة

شاهدت في قناة الشروق السودانية على منصة اليوتيوب دراما سودانية باسم (حكاية التراب)وهي جزء من سلسلة حكايات سودانية للكاتب الدرامي المتميز عبد الناصر الطائف، تدور فحوى الحكاية حول علاقة عاطفية جمعت بين أستاذ جامعي وطالبته، وتُوجت بزواج رفضته أسرة الفتاة لأسباب اجتماعية متجذرة في الثقافة السودانية، إلا أن المحكمة باركت هذا الزواج، متجاوزة بذلك سلطة الأهل والمجتمع.

(حكاية التراب)بطولة محمد عبد الله موسى(العريس)إخلاص نور الدين (العروس)بلقيس عوض (والدة العروس)، ومصطفى أحمد الخليفة (والد العروس). أخرج العمل عروة أحمد (سوري الجنسية) بينما تولى الإخراج المنفذ أبو بكر الشيخ.

تتشابه حكاية التراب في فكرتها مع قضية تناولتها رواية(ساق البامبو)للكاتب الكويتي سعود السنعوسي، التي ناقشت موضوع العنصرية والحب المسكوت عنه بين الخادم مخدومته، الرابط بين الفكرتين يتجلى في شخصية الأم القوية المتسلطة (غنيمة) في ساق البامبو، التي تعاملت بعنصرية مقيتة مع الخادمة الفلبينية وحفيدها الفلبيني الكويتي، وهو ذات السلوك الذي ظهر في حكاية التراب، حيث رفضت والدة الطالبة زواج ابنتها رفضًا قاطعًا، وعنصر الغرابة الذي ميز الحدث في الرواية يتكرر في العمل الدرامي إذ اجتمع أهل القرية لمشاهدة العريس وهو يتقدم لخطبة فتاة أحلامه، دون اتخاذ موقف واضح تجاه ما يحدث.

يبرز المخرج عبر مشاهد مختلفة وحوارات درامية تمسك الفتاة بقناعاتها وحرصها على إتمام الزواج دون الالتفات إلى ردود أفعال المجتمع، طالما أنها لم تخالف القيم الإسلامية، في المقابل بدا العريس مترددًا رغم مستواه التعليمي المتقدم كأستاذ جامعي متخصص في التنوع واساليب تدريسه .

في أحد المشاهد يحاول العريس إقناع أسرة العروس بأن زواجهما لا يتعارض مع ثوابت الدين الإسلامي، فيستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية حينما أظهروا رفضهم العنصري القائم على الثقافة المجتمعية،مستدلًا بقوله تعالى:وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ” (الروم: 22).

وتتجلى العنصرية بشكل واضح من خلال شخصية بائع الخضار، الذي يعكس نظرة المجتمع لهذا الزواج،حيث يقول لوالد الفتاة الذي كان يشتري الطماطم ولرجل آخر يعارض فكرة الزواج:

“الطماطم غالية” في إشارة إلى التمييز بين لون وآخر،ثم يضيف: (الأسود رخيص، وأنت أصلًا تحب الأسود) يقصد الباذنجان!في إشارة مباشرة إلى لون العريس.

يظل التصعيد الدرامي محتدمًا، حيث تعكس المشاهد صراع العريس الداخلي، إذ يخاطب عروسه قائلًا: (هل كان قرار زواجنا بالمحكمة صائبًا؟) لكنها تتمسك بقرارها مؤكدة: (طالما أنني سعيدة في بيت زوجي، فلا يهمني أحد)

تتصاعد الأحداث عندما تذهب الزوجة مع زوجها لحضور عزاء والدتها،فترفض أسرتها استقبالها، ويشيح والدها بوجهه عنها أمام جمع من أهل القرية، تغادر العروس حزينة ومكسورة الخاطر، باحثة عن قبر والدتها لكن والدها يلحق بها هناك، ويقبل طفلها، ثم يطلب منها العودة في “العيد الكبير”، في إشارة إلى قبوله بالزواج والاعتراف به.

هذا المشهد يقدم معالجة ذكية ترمز إلى المصالحة التدريجية التي تحدث داخل المجتمعات، حتى لو بعد حين، فهو لا يتراجع فجأة عن موقفه، بل يحتاج إلى وقت ليعيد التفكير في قناعاته، وهو ما يعكس طبيعة التحولات الاجتماعية.

طرح الكاتب قضية حقيقية وشائكة تُعد من الموضوعات المسكوت عنها في الثقافة السودانية والعربية، وهي قضية يصعب تناولها عبر الحوار المباشر، وسبق أن أشار إليها الفنان التشكيلي إبراهيم الصلحي في برنامجه بيت الجاك عندما كان وكيلًا لوزارة الثقافة والإعلام، ورغم ذلك أُوقف البرنامج مما يؤكد أهمية الدراما التلفزيونية كوسيلة فعالة في تقويم سلوك المجتمعات ومحاربة العادات السلبية والتشوهات الثقافية.

تمكن الكاتب عبد الناصر الطائف من خلال حكاية التراب من تحريك المياه الراكدة، وفتح نافذة أمل ضد ظلامية التعصب للون، القبيلة، والجنس، من حيث المعالجة الدرامية، واستطاع تقديم القضية بأسلوب متوازن يجمع بين الطرح الواقعي والرمزية الفنية دون الوقوع في المباشرة أو الخطابية الزائدة، وتوظيف المشاهد المختلفة مثل موقف البائع، يعكس كيف تتغلغل العنصرية في التفاصيل اليومية، مما يجعلها أكثر تأثيرًا من مجرد نقاش فكري حول الموضوع، كذلك تطور الشخصيات خاصة العريس المتردد والعروس المتمسكة بحقها، يضفي عمقًا دراميًا على العمل ويجعله أقرب إلى الواقع.

عبد الناصر الطائف الذي بدأ تجربته مع الكتابة الدرامية عبر الدراما الإذاعية، يُعد أحد أعمدتها إلى جانب صديقه أنس عبد المحمود. ورغم حداثة تجربته في الدراما التلفزيونية مقارنة بمسيرته الإذاعية، إلا أنه أحدث نقلة نوعية عبر تناوله لقضايا تمس عصب الواقع السوداني.