صرخة الميلاد

من المسافة صفر  _ د.سلوي حسن صديق  

 

*كانت غاية ما تتمناه في الحياة أن تسمع تلك الصرخة الشهيرة تخرج منها.

*تشتاقها حد الوله وهي تدعو الله الكريم  ليل نهار أن يمن عليها بثبات جنين بعد ان تكرر حملها الخديج, تمنته واحدا يحمل إسمها ويملأ بيتها حياة.

*ما بين اليأس والرجاء والأمل والإنتظار أكرمها الكريم كما يحلو لها التعبير.

*نشأ المحبوب بين حنانين، أم عبرت به إلى عالم الأمومة السعيد وأب إبتلت اشواقه حتى فاضت حمدا وشكرا للمنعم.

*شب عن الطوق وكبر مثاليا في كل شئ, ثم دارت دورة الحياة الطبيعية ليصبح سند والديه, يخافا  غيابه  وينتظرا وجوده  في كل تفاصيل حياتهم, كبر وتخرج وعمل بنفس المؤسسة التي كان يعمل بها والده.

*الحياة عندهم مستقرة وهادئة, كل شئ بترتيب الأم المعلمة الحاذقة في موعده, فقط يقلقها امر  زواجه وقد اعدت له العدة باكرا.

 

*كانت تناجيه كل يوم قبل النوم وتسامره بالحديث عن أمنياتها في البحث عن بنت الحلال ولكنه هو المؤدب الحنين يجاريها بحب ثم يغلق الملف بقول(لسه شوية يا حاجة), ثم تغادرالمكان وهي تكفكف دمعة تحرص ألا يراها.

*الحياة عندهم جميلة حد الترف, حب مبذول بلا حدود ونفوس مغسولة من أدران  الحسد والغيرة, حتى جاءت الملعونة

قلب الأم كما يقولون مثل المرآة. *

*إستيقظت صباح الحرب وقلبها يكاد ينفطر حزنا

.. قال لها الابن البار  ( زينا وزي الناس يا أمي)

*لكنها ومنذ بداية الحرب لم يفارقها  ذلك الاحساس الغريب، كان لديها خوف عجيب من المجهول.

*آثرت ألا تفضي به لأحد.

*في رحلة المجهول ما بين الولايات تغيرت حياتهم  وأصبح الممكن معدوما والسهل مستحيلا

*الوالدان  الولهان ينظران لكل ذلك وفي مخيلتهما هو فقط لا غيره

تفاصيل الفقد والعوز والضيق والعيش في المدارس وفي الحلال البعيدة

*كله يهون فقط ألا تفارق عيناه عيونهم العطشي

*كان المسكين يدرك كل ذلك  ولكن ماعساه فاعلا

*مع حصار الابتلاءت والهموم والعجز واخبار الحياة والناس بلا أمل  ، أصبح غريبا في تصرفاته,  قليل الحديث تحاصره الضرورات ويقعده الواقع اللئيم.

*الأم المسكينة كانت تراقبه  في الم وحسرة حينما يخرج  تخرج خلفه متخفية،تتابعه حتى يعود مساء يجر خطى ثقيلة ،تحاول عبثا أن تحادثه أو تسامره ولكن اين ؟

*المكان  لايتسع  لتسمع  فهو غرفة من غرف المدرسة  كانت  فصلا عاديا ولكنها بقدرة قادر أصبحت مأوى  لأكثر من تسعة

أشخاص ،يتقاسمون فيها اللقمة والآهة وسخرية الاقدار التي جمعتهم.

*في ذلك اليوم عاد الشاب مختنقا عيناه زائغتان ،  اقتربت منه الوالدة، في حنان لمست جسده النحيل الذي  اكلته  الحرب اللعينة,

وجدته مشتعلا بالحرارة، أخذت تطوف على الانحاء لتجد علاجا ولكنها عادت بخفي حنين..

اخذت تسأل نفسها عما يكون المرض ولكنها لم تجد  إجابة

ضاقت عليها الحياة بما رحبت بسبب ضيقه وتبرمه بها ..

كانت تحاول عبثا أن تذكره  بالأيام الجميلة وتنعش في نفسه الأمل  ولكن هيهات..

*في  تلك الليلة الحزينة لم تنم الأم الشقية، حرسته حتى لاح الفجر فخرجت تتلمس شيئا لتسد به رمق المجموعة كما تعودت..

عادت تحمل حصتهم وعيناها هناك على سريره..

لمحت السرير خاويا, فوقع ما تحمله..

ثم خرجت لا تلوي على شئ، تولول بلا  دليل يتبعها كل من بالغرفة

(إن شاء الله خير) رددها احدهم.

*من باحة المدرسة هناك انطلقت الأصوات والبكاء، لقد علق الشاب  نفسه في الميدان..أعد مسرح الحدث بنفسه في تلك الليلة الحزينة وفي كسر من الزمن نفذ ما انتواه ليلا

*بكاه النازحون دمعا ثخينا وهم يسترجعون شبابه الغض وحاجة والديه الماسة له ،يتذكرون لحظاته  الحلوة بينهم, قفشاته وحبه للحياة خلال رحلات النزوح الثلاث بين الفرقان، يتذكرون أمله في الله وعبادته وصلاته التي لم تنقطع يوما.

*في تلك اللحظات والناس ثكلي مابين مصدق ومكذب كانت الأم تسمع شيئا واحدا فقط  لاغيره..

صرخة الميلاد التي تمنتها ما أن تنتهي إلا وتبدأ من جديد في سماعها كأنها نغمة مسجلة..

نفس الصوت الملائكي الذي وهبه الله لها على كبر

*الجميع ينظر إلى عينيها الشاردتين في شفقة وهي مشدوهة بالصوت تحكي عن ذلك اليوم  وتلك اللحظات وسعادتها بسماعه.

(*قاتل الله الحرب اللعينة ومن اشعلها( أخذ يرددها أغلب الحضور باكين حال الأسرة  وحالهم.