إستهداف السودان لن يتوقف

بعد .. و .. مسافة

مصطفى أبو العزائم

  *يوم الجمعة السابع من شهر رمضان المبارك، إجتمعنا على إفطار رمضاني سوداني في مصر، مجموعة من الأصدقاء والأصهار هم الأخوة الأعزاء ، اللواء شرطة صلاح محمد عبدالحليم ، وخبير التسويق الأستاذ عبدالعظيم سيد خضر قناوي، والمدير الإداري بقناة الشروق – رد الله غربتها – الأستاذ أحمد المعز خوجلي إبراهيم الرشيد، الذي مازال يحمل الود الكثير لجنوب السودان حيث ولد هناك ، ولم تكن السياسة غائبة، ولاهتمامات اللواء صلاح عبدالحليم بالشأن العام، ومعرفته لإهتمام شخصي الضعيف بالأمر، قادنا النقاش إلى محاولة قلب نظام مايو التي قادتها الجبهة الوطنية في 1976م ، والتي نتج عنها موت ، وعنف، ومرارات ، وغصص حادة في الحلوق والصدور ، وقد سمى الإعلام الرسمي الحكومي تلك المحاولة الفاشلة تارة بـ(الغزو الرجعي – الليبي للسودان) وبـ(محاولة المرتزقة الفاشلة لغزو السودان) تارة أخرى.

*طلب إلي أصدقاء ورفاق العمر أن أدلي بدلوي في الموضوع ، وأن أقدم ما لدي من معلومات ناتجة عن البحث والتقصي حوله ، لمعرفتهم بإهتمامي بالأحداث التاريخية الوطنية .

*فأخذت أراجع ما بقي في الذاكرة من تلك الأحداث القديمة المتصلة تاريخنا السياسي ، وقد أردت ذات يوم من الأيام أن أسهم في كتابة تاريخ السودان بعيداً عن الإنفعال أو الهوى أو التأثير بإنتماء لفكرة أو حزب أو شخص، وبذلت جهداً كبيراً في ذلك، وإطلعت على يوميات تلك الأحداث والوقائع من خلال أوراق المحاكمات ، ومن خلال محاضر مجلس الوزراء ومن الإطلاع على بعض الوثائق النادرة داخل أرشيف جهاز الأمن والمخابرات الوطني وهذا هو الإسم القديم لجهاز المخابرات العامة الحالي – ، بعد أن طلبت ذلك من مسؤولي إدارة الإعلام ، وكان الأمر يتصل بأخطر الأحداث التي شهدتها بلادنا، وسالت فيها (دماء الناس جداول) ، أزهقت أرواح وهدمت بيوت و صوامع ، منذ أحداث ود نوباوي ثم الجزيرة أبا 1970م، وثورة شعبان الطلابية 1973م ، ثم محاولة الإنقلاب على سلطة مايو في سبتمبر 1975م، وأحداث يوليو 1976م التي تطرقنا لها في جلستنا مساء الجمعة الرمضانية.

*المعلومات كثيرة وخطيرة ، وكل يحكي وفق موقفه من الحدث وموقعه من النتائج ، إلا الموتى من شهداء تلك الأحداث ، فقد رحلوا بأسرارهم وقناعاتهم ، وبقي علينا أن نراجع كل تلك الإفادات وأن (نغربلها)، ونصفيها تصفية كاملة ، بعيدة عن ربطها بذات الذي يحكي أو بشخص الذي يريد أن يلعب دوراً غير حقيقي في تاريخ هذا الوطن المنكوب ، بنكبة الصراع على السلطة، وهي نكبة أقعدتنا بينما سار الآخرون، وخلفتنا عن ركب المستقبل بينما تقدم الآخرون.

*الجمعة الثاني من يوليو 1976م ، بدأت الأحداث عند الخامسة صباحاً لحظة وصول طائرة الرئيس (جعفر محمد نميري) عائداً من فرنسا بعد جولة شملت الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الفرنسية.. وتمت مهاجمة المطار وعدد من معسكرات القوات المسلحة في المدن الثلاث والكباري والإذاعة السودانية ودار الهاتف ومساكن عدد من القيادات وعدد من المنشآت المختلفة.

*نهار ذات اليوم إنتقل بث الإذاعة السودانية من أم درمان إلى جوبا، وبدأت إذاعة وبث بيانات المساندة من قبل مؤيدي النظام وسدنته ، وتمت إذاعة بيانات للسيد (أبيل ألير) نائب رئيس الجمهورية ورئيس المجلس التنفيذي العالي للإقليم الجنوبي و(بونا ملوال) وزير الثقافة والإعلام ، بينما كانت القوات المسلحة تتحرك في العاصمة لإسترداد معظم المنشآت العسكرية من أيدي القوات (الغازية) تساندها قوات الأمن، وقد إستشهد عدد من الضباط وضباط الصف والجنود في تلك العمليات ، كان من بينهم اللواء (الشلالي) واللواء محمد يحيى منور.

*صبيحة (السبت) الثالث من يوليو استردت القوات المسلحة كل المعسكرات والقواعد العسكرية بمعاونة القيادات التي جاءت إلى العاصمة ولعبت دوراً كبيراً في تلك العمليات، وتم اعتقال العشرات من الذين حاولوا الاستيلاء على السلطة، وفي مقدمتهم قائد العملية المرحوم (محمد نور سعد) .. وتم في ذات اليوم تحرير الإذاعة من قبضة محتليها لتعاود البث نهار ذلك اليوم إلى جانب إذاعة جوبا، وقد أذاع رأس النظام، الرئيس (جعفر نميري)  – رحمه الله – أول خطاب له بعد تلك المحاولة معلناً دحر (المؤامرة) ومشيراً إلى خطاب اللواء أركان حرب الراحل (محمد الباقر أحمد) النائب الأول لرئيس الجمهورية ، الذي كشف فيه تفاصيل وحقائق عملية (الغزو البربري الارتزاقي الليبي)– أو كما قال– في وقت أبرق فيه جلالة الملك (خالد بن عبد العزيز آل سعود) ملك المملكة العربية السعودية ، والرئيس (محمد أنور السادات) رئيس جمهورية مصر العربية ، – رحمهما الله – أبرقا القيادة السودانية والشعب السوداني مهنئين باندحار المؤامرة الفاشلة.

*في ذات اليوم خاطب الرئيس “نميري” الشعب السوداني للمرة الثانية وأكد أن ما حدث فجر (الجمعة) الثاني من يوليو لم يكن محاولة انقلابية عسكرية، بل كان غزواً أجنبياً غادراً تم تجنيد الآلاف من مختلف الأجناس للمشاركة فيه ، وتم ضم بعض السودانيين من ضعاف النفوس إليهم وتم تدريبهم في الخارج .. لذلك قرر السودان (الرئيس) سحب سفيره من ليبيا، وأعلن الرئيس نميري عن إجراءات لتعقب الهاربين، وإستمرار حظر التجول الذي أعلنه وزير الداخلية الرائد مأمون عوض أبوزيد.

*كانت هناك ردود أفعال أخرى إتصلت بالجوار السوداني والمحيطين الإقليمي والعربي.

   *اتفقنا في إفطارنا الرمضاني ذاك بأن محاولات غزو السودان لن تتوقف، وما حدث من تمرد قوات الدعم السريع، كان متوقعا، وبعد أن ينجلي غبار المعركة التي سيتذوق فيها حميدتي وجماعته طعم الهزيمة المر، فإن هناك من يبدأ التخطيط من جديد لغزو السودان.. لذلك علينا الإنتباه اليقظة والحذر والإستعداد.