حرب الكرامة وارتداداتها على الجوار الإفريقي

د.إسماعيل الحكيم
Elhakeem.1973@gmail.com
حين اندلعت حرب الكرامة في السودان، لم تكن معركة داخلية على السلطة أو النفوذ أو قتالا بين قوتين عسكريتين ، بل كانت زلزالًا سياسيًا وأمنيًا تجاوز حدوده الجغرافية، ليعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية في قلب القارة الإفريقية. وبينما كان الجيش السوداني يخوض معركة الوجود ضد ميليشيا الدعم السريع المتمردة ، كانت عيون الجوار الإفريقي تتابع الحدث بقلقٍ وترقّب، وبعضها بارتباكٍ ظاهر لأنه شريك خفي في الدعم والمساندة للمليشيا ، كما دلّت زيارات قادة مخابرات إثيوبيا وأفريقيا الوسطى إلى بورتسودان مؤخرًا.
فمن كان يظن أن السودان يمكن اختزاله في معركة داخلية فهو واهم فهذا البلد الشاسع الذي يتوسط حزام النزاعات الإفريقية، يملك موقعًا استراتيجيًا يجعله بوابة شمال القارة إلى قلبها، ومنفذ البحر الأحمر إلى أعماقها. ومنذ أن بدأت كفة الجيش السوداني ترجح، بدأ المشهد في الجوار الإفريقي وكأنه يترنح تحت وقع الحقيقة السودان يتعافى، والنفوذ غير المشروع يتهاوى.
ففي جوبا مثلا ، بدأ الرئيس سلفا كير يسير على حافة هاوية سياسية تزداد رقعتها يوماً بعد يوم. فالهزائم المتتالية التي لحقت بالدعم السريع، المدعوم ضمنيًا من بعض مراكز القوى في جنوب السودان، كشفت حجم التداخل الخفي، والمراهنات الخاسرة. فكيف لرئيسٍ يعاني من هشاشة داخلية أن يصمد حين تسقط رهاناته الإقليمية واحدة تلو الأخرى؟ إن زلزال السودان لا بد أن تصل تردداته إلى الجنوب وربما تجاوزته ، وربما يعيد تشكيل معادلة السلطة هناك عاجلاً أو آجلاً.
أما إثيوبيا، التي كانت تحاول منذ سنوات لعب دور القوة الإقليمية الصاعدة، فقد تلقت ضربة معنوية حين رأى قادتها أن مخططات إضعاف السودان وتفكيكه تتداعى أمام صلابة الجيش السوداني. ولعل زيارة مسؤول مخابراتها إلى بورتسودان تمثل رسالة مزدوجة من جهة محاولة قراءة المشهد الجديد، ومن جهة أخرى إقرار ضمني بأهمية السودان كقوة توازن إقليمية لا يمكن تجاهلها أو كسرها لا سيما أن رئيسها أصبح وضعه في الحكم لا يخلو من مهددات .
في بانغي، لم يكن الأمر أقل توترًا. فالدعم الخفي الذي حظيت به بعض تحركات الدعم السريع عبر الحدود، والذي تغاضت عنه حكومات أفريقية لأسباب أمنية أو مالية، بدأ يتبخر مع انحسار نفوذ الميليشيا. والسؤال الذي يطرحه قادة أفريقيا الوسطى اليوم كيف يمكن احتواء تداعيات المشهد السوداني دون خسارة الحلفاء أو التعرض لعقوبات لاحقة؟
أن تتحوّل بورتسودان إلى ملتقى لرؤساء المخابرات الإفريقية، فذلك ليس حدثًا عابرًا. بل هو مؤشر على أن السودان بعد الحرب لم يعد كما كان. إنه يفرض شروطه من موقع القوة، ويستعيد حضوره الجيوسياسي بوجه مختلف. ما جرى في السودان هو بداية نهاية لمرحلة كانت فيها دول الجوار تراهن على تفككه، وترسم على أنقاضه مشاريع توسّع أو تصفية حسابات قديمة.
فالرسالة الأقوى هي أن السودان ليس ملعبًا، بل لاعبًا ..وهزيمة الدعم السريع لم تكن فقط انتصارًا عسكريًا، بل كانت تحوّلًا في المعادلة السياسية الإقليمية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . بل وجه السودان رسالة صريحة لجيرانه نحن لسنا ساحة لتصفية الحسابات ولسنا خاصرة رخوة لأطماع الخارج . ومن يراهن على ضعفنا ، فليعد حساباته.