أشهر الجرائم والقضايا بالمحاكم السودانية.. (7)

 

  • قاتل ينجو من حبل المشنقة بإعجوبة

إعداد: التاج عثمان

**جرائم وقضايا تعد الأشهر والأغرب في تاريخ القضاء السوداني بسببها شهدت قاعات المحاكم جلسات عاصفة وجدل قانوني محتدم بين ممثلي الادعاء ومحاميي المتهمين.. ومن خلال نشر حيثيات القضايا ومرافعاتها ودفوعاتها داخل أروقة المحاكم المختلفة نهدف لتقديم ثقافة قانونية رفيعة للقراء والمحامين الجُدد وطلاب وطالبات القانون**

القضية التي نستعرضها من خلال هذه الحلقة السابعة جريمة قتل غريبة غير مألوفة لا تشبه جرائم القتل المعتادة.. المتهم فيها لاجئ اثيوبي بالسودان والقتيل مواطن سوداني.. تابعت تفاصيل هذه القضية مثيرة التفاصيل منذ الجلسة الأولى التي إنعقدت بمحكمة جنايات امدرمان غرب محلية امدرمان.. وكنت وقتها اتولى رئاسة تحرير صحيفة (أخبار الحوادث) السودانية وبسببها نشأت علاقة صداقة بيني وبين القاضي مولانا الرشيد التوم، الذي إتصل بي دون سابق معرفة مشيدا بالصحيفة وطلب مني زيارته بالمحكمة فزرته فعلا وأشار ان لديه قضية قتل غريبة التفاصيل تستحق النشر بالصحيفة ووعدته بحضور كل الجلسات.. ويوم إنعقاد الجلسة الأولى توجهت للمحكمة بأمدرمان وجلست في القاعة مع بقية الحضور، ويبدو انه شاهدني وسط الجمع، والذي كان معظمه من الاثيوبيين والاثيوبيات، فطلب من العسكري حاجب المحكمة إحضاري له، وكان وقتها في قاعة المحكمة قبل بداية الجلسة بقليل فطلب مني الجلوس بجانبه لمتابعة القضية، ولخص لي القضية بإختصار مشيرا ان المدعي عليه ــ المتهم ــ مواطن أثيوبي الجنسية لاجئ بالسودان، متهم في جريمة قتل مواطن سوداني.

تفاصيل الجريمة

بينما كان اللاجئ الاثيوبي يمر بميدان البوسته امدرمان تعرض له أربعة نشالين حاولا نهب حافظة نقوده والتي تحتوي على مبلغ كبير من المال، إلا أنه قاومهم مقاومة عنيفة حماية لماله، وكان أربعتهم امامه مباشره ولتفاديهم بدأ يتحرك للخلف ولما ضيقوا عليه الخناق تصادف وجود أحد الباعة الفريشه يعرض بضاعته على الأرض وهي عدد من السكاكين فخطف الأثيوبي واحدة منها وبدأ يلوح بها ذات اليمين وذات واليسار لتهديد النشالين الذين كانوا يحاولون الفتك به ونهب محفظته المحشوة بمبلغ مالي كبير.. وأثناء تراجعه للخلف اصابت السكين أحد المواطنين (الفضوليين) الذي كان يتابع فصول النزاع بين الاثيوبي والنشالين الأربعة، فاصابته السكين في مقتل، حيث إنغرزت في قلبه وتوفى في الحال، بينما هرب النشالين الأربعة عند رؤيتهم المواطن السوداني سابحا في دمائه.. وقام الاثيوبي بتسليم نفسه للشرطة التي هرعت لمكان الحادث ونقلت الجثمان لمشرحة مستشفى امدرمان.

اقوال المتحري

وبدات المحكمة عقد جلستها الأولى بسماع اقوال المتحري في البلاغ والذي لخصه بقوله: كما جاء في التحري مع المتهم والشهود:” ان الاثيوبي (…) المدعى عليه، والبالغ من العمر 29  سنة، متهم بقتل المواطن السوداني (…) بميدان البوسته  بامدرمان بسكين فتوفى في الحال وتم نقل الجثمان لمستشفى امدرمان للتشريح لمعرفة سبب الحادث.. وتم فتح بلاغ في الواقعه وأخذ اقوال الشهود، وتحريز آداة الجريمة السكين معروضات في البلاغ”.

ممثل الإدعاء

بعدها منح القاضي الفرصة للمحامي ممثل الادعاء ــ الإتهام ــ والذي سرد بدوره تفاصيل مقتل المواطن السوداني ــ الضحية ــ موضحا ان هناك شهود بانه أصاب موكله المرحوم بالسكين بسبب شجار ــ حسب قوله ــ فتوفى في الحال.. مشيرا ان الواقعة جريمة قتل عمد، مطالبا بتشديد العقوبة المغلظة على القاتل.. وقام الشاهدين بتقديم شهادتيهما امام المحكمة والتي لم تخرج من اقوال محامي الإدعاء.. حيث ذكرا في اقوالهما انهما شاهدا المتهم الاثيوبي يطعن مواطن سوداني بميدان بوسته امدرمان إثر مشادة بينه وبين بعض الأشخاص.

محامي الدفاع

وتبلغ القضية ذروة الإثارة عند مرافعة محامي المتهم الاثيوبي ــ المدعي عليه ــ وهو من المحامين المعروفين والمتمرسين في قضايا القتل، ويبدو انه تسلح جيدا بكل تفاصيل القضية، وطلب من القاضي توجيه بعض الأسئلة للشاهدين مشيرا انه يكتفي بشاهد واحد فقط، وبدا بتوجيه أسئلته لاحدهما بقوله:

*هل كنت حاضرا عند وقوع جريمة القتل؟

ــ أجل.

*أين وقعت الجريمة؟

ــ بميدان البوستة بامدرمان.

*هل تعرف سبب حمل المتهم للسكين؟

ــ اعتقد ان هناك شجارا وقع بينه وبين بعض الأشخاص.

*ما طبيعة الشجار الذي وقع بين المتهم والأشخاص الذين أشرت لهم؟

ــ لا أدري السبب، لكن عندما حضرت للموقع وجدتهم يحاولون الإعتداء على المتهم الاثيوبي.

*هل يمكنك وصف أين كان يقف الأشخاص الأربعة؟

ــ كانوا امام المتهم مباشرة.

*هل كانوا ثابتين في مكانهم ام كانوا يتحركون نحو المتهم؟

ــ كانوا يتوجهون نحوه.

*هل كان المتهم وقتها يوليهم ظهره ام وجهه؟

ــ كان المتهم في مواجهتهم.

*يعني انه كان يتحرك للخلف وهم امامه؟

ــ اجل.

*هل كان المتهم الأثيوبي يحمل سكينا؟

ــ اجل، وكان يلوح بها في وجوه مهاجميه الأشخاص الأربعة.

*هل شاهدت المتهم يخرج السكين من جيبه؟

ــ لا.

من اين اتى بها إذن؟

ــ خطفها من أحد الباعة.

*ذلك يعني ان السكين ليست ملك المتهم الاثيوبي؟

ــ بالطبع، لأنني شاهدته ينتزعها من بين عدد من السكاكين.

*وأين كانت السكاكين؟

ــ كان البائع يفرشها على الأرض للبيع.

*أنظر لقفص الإتهام، هل المتهم هو نفسه الذي أصاب المرحوم بالسكين؟

ــ أجل هو نفسه.

*هل تشرح للمحكمة كيف أصاب المتهم الماثل امامك المرحوم.

ــ أصابه بالسكين.

*أعلم ذلك، لكنني اسالك، هل كان المرحوم واحدا من الأشخاص الأربعة الذين حاولوا الإعتداء على المتهم؟

ــ لا ليس منهم.

*هل تصف للمحكمة اين كان موقع القتيل؟

ــ كان يقف خلف المتهم الاثيوبي.

*ذلك يعني ان المتهم لم يكن يشاهد القتيل أثناء تلويحه بالسكين؟

ــ كما قلت لك القتيل كان يقف خلف القاتل وبالتالي لا اعتقد انه شاهده.

*صف للمحكمة الطريقة التي كان المتهم يلوح بها السكين؟

ــ كان يلوح بها جهة اليمين واليسار.

*اثناء تلويح المتهم بالسكين هل كان يستخدم يده اليمنى ام اليسرى؟
ــ اليمنى.

*سؤال أخير.. هل كان المتهم يلوح بالسكين في حركة دائرية للأمام والخلف؟

ــ أجل.

*ذلك يعني ان السكين كان يمكن ان تصيب أي شخص يقف خلف المتهم اثناء تلويحه بها؟

ــ لا أدري.

حكم المحكمة

بعد سماع كافة أطراف القضية رفع القاضي الجلسة وحدد جلسة بعد إسبوع لإصدار الحكم.. وفي ذلك اليوم الموعود إمتلأت قاعة المحكمة بحشد كبير من أهل المتهم من الاثيوبيين والأثيوبيات، وأيضا أهل القتيل وجمهور غفير من المواطنين حيث انني كنت انشر تلخيصا لما دار في الجلسات ولذلك أصبحت القضية قضية رأي عام.. دخل القاضي قاعة المحكمة وبدأ في قراءة حيثيات الحكم بقوله:

“توصلت المحكمة ان المتهم لم يكن يقصد المرحوم حيث انه لا يعرفه ولم يكن القتيل ضمن الأشخاص الذين هاجموا المتهم.. ودفاعا عن نفسه وماله شاهد سكينا على الأرض لاحد الباعة فإختطفها وأصبح يلوح بها في وجوه مهاجميه الأربعة للدفاع عن نفسه، وأثناء تراجعه للخلف حاملا آداه الجريمة وهي سكين (عظيمة) ــ كما وصفها القاضي ــ تصادف وجود شخص بريء خلفه ولم يكن المتهم يراه، واثناء تلويحه بالسكين في وجوه مهاجميه اصابت السكين الشخص الذي كان يقف خلف المتهم لتنغرز في قلبه مباشره وتوفي في الحال حسب شهادة الطبيب الشرعي الذي قام بتشريح جثمان القتيل.. وإستنادا على ذلك تصدر المحكمة القرار التالي: براءة المتهم من جريمة القتل العمد والخطأ وإطلاق سراحه فورا”.

نوبة بكاء

بعد صدور حكم البراءه إنتابت نوبة من البكاء المتهم واهله الحضور من الاثيوبيين والاثيوبيات واحاطوا به يعانقونه.. وعندما شاهدني توجه ناحيتي فهناته على براءته، ودعاني الحضور لمنزلهم بأم بده لحضور (الكرامة) وفعلا ذهبت إليهم ليلا.. وبذلك أسدل الستار على أكثر جرائم وقضايا القتل غرابة وإثارة في تاريخ المحاكم والقضايا السودانية.. وفعلا (قاتل ينجو من حبل المشنقة بإعجوبة)، بفضل شطارة المحامي وتمرسه في قضايا القتل.. اخيرا أشير أنني عقب صدور الحكم توجهت مباشرة لمقر صحيفة (أخبار الحوادث) وحررت ما دار فيها وقرار المحكمة ببراءة المتهم الأثيوبي عبر صفحتي الوسط  وبنفس العنوان الحالي، وفي لحظات نفذت الصحيفة من المكتبات وباعها بعض الصبية بأضعاف سعرها، بل وتسببت في بوار بقية الصحف السياسية والرياضية في ذلك اليوم حسب أصحاب مكتبات توزيع الصحف بالعاصمة.