مديرة إقليمية بالأمم المتحدة:يستعصى عليّ وصف ما رأيت في بورتسودان(حوار)

 

 

أعربت ليلى بكر، المديرة الإقليمية لصندوق الأمم المتحدة للسكان للدول العربية عن قلقها البالغ إزاء الأوضاع المأساوية التي تواجه النساء والفتيات السودانيات، في خضم الصراع المستمر وتداعياته الإنسانية الكارثية.
وكانت في زيارة تضامنية إلى السودان بهدف تسليط الضوء على محنة النساء السودانيات اللواتي يعانين من تداعيات حرب كارثية وصفت بأنها “حرب على النساء”. متحدثة لأخبار الأمم المتحدة من مدينة بورتسودان الساحلية، قالت بكر إن مستشفى الولادة الذي زارته يعاني من الاكتظاظ والنقص الحاد في الإمدادات الطبية، مشيدة بالتفاني الكبير الذي أبداه العاملون في الميدان على الرغم من الظروف الصعبة، مزيداً من الإفادات في الحوار أدناه…

 

أخبار الأمم المتحدة: شكرا لك على الانضمام إلينا من بورتسودان. بداية، هل لك أن تخبرينا عن زيارتك إلى السودان؟

ليلى بكر: نعم، كانت الأيام القليلة الماضية غنية بالمعلومات. الوضع في السودان بالغ الخطورة ويستدعي تسليط الضوء على محنة النساء والفتيات. على الرغم من كل ما يحدث هنا في السودان، شعرنا بأن القضية لا تحظى بما يكفي من الاهتمام من المجتمع الدولي. لذا، تمثل جزء من مهمتي في المجيء والاطلاع بأنفسنا على الوضع على الأرض، والأهم من ذلك، أن فريقنا في صندوق الأمم المتحدة للسكان – إلى جانب جميع وكالات الأمم المتحدة الأخرى – ملتزم بالبقاء وتقديم الخدمات، بلا كلل أو ملل، في أصعب الظروف.
أعتقد أن جزءا مما نرغب فيه هو الحصول على فهم أفضل لكيفية دعم الأمم المتحدة، بما في ذلك صندوق الأمم المتحدة للسكان، للفريق والشركاء على الأرض لتقديم استجابة فورية للصراع، وخاصة المجاعة الجارية. وثانيا، كيف يمكننا أيضا إرساء الأسس لبناء سودان أقوى لا يضطر لمواجهة هذا النوع من العنف والتدمير مرارا وتكرارا.

 

أخبار الأمم المتحدة: ذكرت أنك عدت للتو من زيارة ميدانية. وأعتقد أنك زرت مستشفى الولادة في بورتسودان بالأمس. هل يمكنك مشاركة المزيد حول ما رأيتيه هناك؟

ليلى بكر: يستعصي عليّ العثور على كلمات (لوصف ما رأيت). تنتابني مشاعر قوية تجاه زيارة مستشفى الولادة وكذلك مساحة الأمان المخصصة للنساء والفتيات. في كلتا الحالتين، كان هناك أشخاص ملهمون. لم يهتموا كثيرا بظروفهم الشخصية من النزوح والضغط، وظلوا يقدمومون الخدمات للنساء والفتيات المحتاجات.
قابلنا أطباء يعملون على مدار الساعة. التقيت بقابلة رائعة كانت تخرج بلا كلل إلى الميدان، لتتأكد من تقديم رعاية ما قبل الولادة ومتابعة النساء الفقيرات، وإحضارهن إلى المستشفى نفسه. لقد كان ذلك ملهما ومؤثرا، وأعتقد أنه يعكس الطبيعة الجميلة لشعب السودان التي تستحق الثناء. الظروف التي رأيناها في مستشفى الولادة كانت مزرية بالقدر نفسه. رأينا أطفالا مكدسين في الحاضنات وأجهزة التدفئة. كان هناك طفلان أو ثلاثة في جهاز تدفئة واحد نسبة للنقص في هذه الأجهزة.
يصعب جدا على المهنيين الطبيين التعامل مع هذا العدد من المرضى وتقديم الرعاية. يعاني الناس أنفسهم من نقص الإمدادات، وقلة النظافة، ورغم كل الجهود المبذولة، إلا أن المستشفى مكتظ، فهو يقدم خدمات تفوق سعته بأربعة أضعاف، في مكان مثل بورتسودان، نسبة لعدد الأشخاص النازحين ولا سيما من الخرطوم. وقد ظل صندوق الأمم المتحدة للسكان يقدم الخدمات هناك. على سبيل المثال، قمنا بتركيب ألواح شمسية لمستشفى الولادة هذا، وبفضل ذلك تتوفر الآن المياه الساخنة والكهرباء على مدار العام. لقد كان ذلك في حد ذاته خدمة كبيرة وكان موضع ترحيب كبير.
لكننا ندعو المجتمع الدولي إلى تقديم بعض الإغاثة إلى كل هؤلاء الأشخاص المخلصين حتى يتمكن المستشفى من مواصلة تقديم الخدمات وكذلك توسيعها إلى أبعد من هذا المركز المعين. إنه مركز الولادة الوحيد الآن الذي يقدم الخدمات لجميع النازحين داخليا. قمنا أيضا بزيارة مساحة آمنة للنساء والفتيات، وهي ملجأ الآن.
أنا أعمل في هذا المجال منذ نحو ثلاثة عقود، وقد رأيت خلال هذه المدة العديد من الملاجئ والنازحين. لكنني (لم أر) مثل هذا الوضع الذي يجتمع فيه الازدحام واليأس ونقص الطعام والمياه النظيفة ومنتجات النظافة بالنسبة للعديد من النساء، والخوف والصدمة الشديدين من الفقدان والخسائر التي تكبدنها إما بسبب الصراع، أو الفيضانات أو الاثنين معا، والعديد منهن تعرضن أيضا للعنف الجنسي نتيجة نزوحهن.
لقد آلمني جدا هذا الصراع.
ومجددا رأينا من شركائنا الذين كانوا يديرون ذلك المأوى نفس القدر من روح التفاني والانفتاح والسخاء الذي رأيناه في مستشفى الولادة. لم يقولوا لا لأحد على الرغم من الازدحام والتعب.
وأشعر أن هناك الكثير الذي يمكن أن يفعله المجتمع الدولي لدعم هذا النوع من التفاني، وهذا النوع من الاستجابة، لضمان عدم تعرض النساء لمثل هذا النوع من العنف. ومن تعرضن للعنف يمكنهن الحصول على العلاج الطبي المناسب وبدء عملية التعافي

 

أخبار الأمم المتحدة: في الواقع، كان هذا هو سؤالي التالي حول الجهود التي تبذلها فرق صندوق الأمم المتحدة للسكان والشركاء من المنظمات غير الحكومية المحلية بهدف مساعدة من هن في حاجة إلى المساعدة، في ظل خروج غالبية المرافق الصحية عن العمل وافتقار آلاف النساء في السودان لخدمات الصحة الإنجابية.

ليلى بكر: هذا صحيح. نحن نقدم خدماتنا لجميع شركائنا على الأرض. يقدم صندوق الأمم المتحدة للسكان خدماته في 13 ولاية بشكل مباشر. كما قمنا بتوسيع مكاتبنا لتغطية ست مناطق مختلفة. لذلك لدينا الآن مكاتب فرعية حتى نتمكن من الوصول بشكل أكبر في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة، ولكن أيضا في المناطق التي نحظى فيها بوصول محدود للغاية نتيجة للصراع المسلح، بما في ذلك دارفور.
يقدر عدد سكان السودان بحوالي 50 مليون نسمة، ونصف هذا العدد في حاجة إلى المساعدة الآن، بما في ذلك من أجل تلافي خطر المجاعة، يصبح من الصعب جدا توفير المساعدات لهذا الكم الهائل من الناس، فالأعداد الهائلة. لذا فإن ما نقوم به هو البحث عن حلول مع شركائنا الذين يدعمونهم من خلال العيادات المتنقلة والكثير من الإمدادات.
اليوم قمنا بتسليم وزارة الصحة السودانية شحنة كبيرة من الإمدادات التي ستساعد في دعم المرافق الصحية الثابتة – أي أقسام الولادة والمرافق الصحية الأكبر الأخرى، ولكن أيضا العيادات المتنقلة. هناك 52 مرفقا صحيا لتقديم خدمات الصحة الإنجابية، بما في ذلك رعاية الأمومة، في جميع أنحاء البلاد. 52 عيادة ليست كافية لبلد بحجم السودان. لكننا نفعل ما بوسعنا. ونحن شريك واحد من العديد من الشركاء الذين نأمل على الأقل في توفير بعض الراحة لهؤلاء النساء.

 

أخبار الأمم المتحدة: توصف الحرب في السودان بأنها حرب على النساء. هل سنحت لك الفرصة لمقابلة أي ناجيات من العنف الجنسي، أو هل لديك أي قصص لتشاركيها معنا حول هذه القضية؟

ليلى بكر: أتمنى لو كان بإمكاني أن أجيبك بـ لا، ولكن لسوء الحظ، التقيت بنساء شاركن قصصهن، وكن شجاعات بما يكفي لإخبارنا – إما بشكل خاص أو في وجود الآخرين – عما حدث لهن. يُدين صندوق الأمم المتحدة للسكان العنف الجنسي، وخاصة العنف الجنسي المستخدم كاستراتيجية للحرب. نحن لا نقوم بالحكم على الآخرين. ولا نسأل من هو الجاني. ينصب تركيزنا على المرأة أو الفتاة التي تعرضت لهذا النوع من العنف وضمان حصولها على العلاج، بما في ذلك الرعاية النفسية – الاجتماعية والعلاج الطبي، وبدء عملية التعافي.
وأعتقد أن فرقنا على الأرض تعمل بشكل جيد. تكمن المشكلة في أن عدد الأشخاص المحتاجين لهذه الخدمات أكبر من عدد الأشخاص المؤهلين الذي يقدمون هذه الخدمات. بالإضافة إلى ذلك، ظللنا نعمل مع شركائنا على الحيلولة دون وقوع مزيد من العنف والمزيد من التعرض للعنف الجنسي على وجه الخصوص.
دعني أخبرك بقصة فتاة، وهذا أمر صعب ومؤثر للغاية بالنسبة لي. كنا نجري مناقشة جماعية في أحد الملاجئ، وكانت العديد من النساء يتشاركن قصصهن. وقفت شابة ثم لم تستطع الكلام. بُح صوتها وبدأت في البكاء. قلت لها تعالي واجلسي. جلست بجانبي ثم همست في أذني وقالت لي إنها تعرضت للاغتصاب. ثم نظرت إليّ. الشيء الوحيد الذي استطعت فعله هو أن أحتضنها وأقول لها: ‘أنت لست وحدك. نحن هنا للمساعدة. وهناك العديد من النساء اللاتي مررن بما مررت به. شكرا لك على مشاركة قصتك. أنت إنسانة شجاعة’.
وأعتقد أنها شعرت بالارتياح لكون أنها وجدت مساحة لتخبر قصتها التي لم تشاركها مع أحد من قبل، لكن هذا الأمر أثر عليها بشكل بالغ وشعرت بالذنب، وبدأت تشك في نفسها وتفقد ثقتها بنفسها. وهي شابة في العشرين من عمرها، جميلة وحيوية ومتعلمة، وكانت حياتها تسير على ما يرام. وفي سياق هذا الصراع الوحشي، تعرضت للاعتداء ولم يكن لديها أحد تتحدث إليه، واضطرت إلى العودة إلى نفس المكان الذي تعرضت فيه للاعتداء، لأنه كان مكان عملها، وكانت هي المعيلة الوحيدة لعائلتها، ليس فقط أسرتها المباشرة، بل وعائلتها الممتدة كذلك. بكينا معا. لقد تأثرت بشدة بقصتها.
تحدثت معها عن المكان الذي يمكنها الحصول فيه على مزيد من المشورة، وأكدت لها أن فرق صندوق الأمم المتحدة للسكان على الأرض ستحافظ على سريتها إن هي أرادت التحدث أكثر. أخبرتني أن هذا خفف عنها العبء الذي كان يثقل كاهلها. فمجرد التعبير عن ذلك والحصول على تلك المساحة الآمنة هو في حد ذاته منقذ للحياة. وأعتقد أن العديد من الناس يقللون من شأن عمل صندوق الأمم المتحدة للسكان وشركائه في محاولة، ليس فقط مكافحة العنف الجنسي، ولكن أيضا لإدانته وتقديم الخدمات لأشخاص مثل هذه الشابة من أجل استعادة ثقتها بنفسها واستعادة حياتها إلى المسار الصحيح.

أخبار الأمم المتحدة: شكرا لك على نقل رسائل وقصص هؤلاء النساء. هل تخططين لزيارة أي مدينة أخرى غير بورتسودان؟

ليلى بكر: زيارتي هذه المرة فقط لمدينة بورتسودان. ولكنني أخطط للعودة بمجرد إنشاء مكاتبنا الفرعية بشكل أكثر استقرارا. من الصعب جدا الوصول إلى المناطق الأخرى الآن. وكما قلت، أتيت هذه المرة لدعم فريقنا الذي تأثر أيضا بالصراع. عادة ما يتمتع موظفو الأمم المتحدة بقدر من الامتياز عندما نبقى لمساعدة الناس. ولكن في حالة السودان فهذه مناسبة نادرة يحدث فيها أن الموظفين أنفسهم نازحون. لقد نزح جميع موظفينا، وكل شخص في هذا المكتب يحمل قصصا لا مثيل لها في الفقدان والخسارة – سواء على المستوى الشخصي أو العائلي أو المادي أو البشري.

ما من شخص واحد في هذا المكتب لم ينفصل أو ينزح أو يفقد منزله أو حياته أو الكثير من الأمور التي اعتبرها مقدّسة وتحمل رمزية بالنسبة له. بالنسبة لي وللأشخاص الذين يصطحبونني في هذه المهمة، فنحن هنا لنبدي دعمنا وتضامننا مع شعب السودان وجميع موظفينا المخلصين الذين يعملون، بلا كلل، على الرغم من الظروف التي وصفتها للتو. نادرا ما رأيت هذا النوع من الالتزام.

 

أخبار الأمم المتحدة: بناء على ما رأيتيه وما أخبرتينا به الآن. ما هي رسالتك للعالم؟

ليلى بكر: رسالتي للعالم هي أن السودان يستحق السلام. إنه بلد جميل وذو إمكانيات وأهله طيبون. علينا بذل قصارى جهدنا لإنهاء هذا الصراع العنيف وتحقيق الاستقرار في بلد كان ذات يوم سلة خبز بالنسبة للقارة الأفريقية بأسرها. علينا أن نعيد التفكير في ذلك، والطريقة التي نتعامل بها معهم وندعمهم ونقدم للشعب السوداني كل الدعم الذي نستطيعه حتى يتحقق السلام في أسرع وقت ممكن.

 

نقلاً عن .. أخبار الأمم المتحدة