قصة محمود مع أسوأ كارثة في العالم(١-٢)
ضل الحراز – علي منصور
*منذ أن كتب مؤلف مجهول (ملحمة جلجامش) في القرن الثامن عشر قبل الميلاد وهي أقدم قصة كتبها الإنسان وحتى شيوع الأنترنت قبل حوالي عشرين عاماً، ظل الكتّاب الحقيقيين قلة نادرة من أصحاب المواهب والمعرفة الموسوعية والخيال الخصب والحس الجمالي والأفكار الجديرة بالقراءة والتأمل مثل الاستاذ محمود الشين، والى عهد قريب كان مثلهم في عالمنا محل اعجاب واحترام المثقفيين الذين يتابعون أعمالهم الجديدة بشغف ورغم تكاثر الكتّاب كالفطر بعد المطر بحيث بات من الصعوبة بمكان فرز الكتّاب الحقيقيين عن الأدعياء الذين لا أثر في كتاباتهم لأي فكر أو إبداع، ولم يعد الجيل الجديد يهتم بالمنتوج الإبداعي الأصيل فكراً وفناً فهو يبحث في الانترنت وفي المجلات الخفيفة عن توافه المعارف وغرائب الحوادث وطرائف النوادر وهي كلها أشبه بـوجبات (الفاست فود) لا تترك أثراً في النفس ولا حاصلاً في الذهن ثمة سمات يتصف بها الكاتب الحقيقي مثل الشين، وهي خصائص نفسية ومعايير فنية وجمالية وأخلاقية يلتزم بها على خلاف الكتاب الاستهلاكيين السطحيين الذين لا يهمهم سوى تسويق أنفسهم و (كتاباتهم) كأي سلعة في السوق والفرق بين الأثنين جذري.
*أهم ما يميز محمود هو الحياد الذي منحه القدرة على توثيق عقود من النزاع وبفضله استطاع من رصد معاناة الناس وما حدث في تلك البقعة من البلاد فالحياد مهم للغاية في مثل هذه الأعمال لأنه يساعد في إثبات مصداقية وموضوعية البحث لأنه يتضمن دراسة سلوك الناس وثقافتهم وتقاليدهم في بيئتهم الطبيعية عندما يُنظر إلى الباحث على أنه محايد فإنه يكون قادرًا على كسب ثقة القارئ وتعتبر هذه الثقة أمرًا بالغ الأهمية للوصول إلى الجوانب الحساسة أو الخفية للحصول على معلومات دقيقة ومفصلة كما أن الكاتب المحايد قادر على ملاحظة وتسجيل الأحداث دون التأثير عليها أو تغييرها وبالتالي ضمان أن تكون البيانات التي تم جمعها دقيقة وموثوقة قدر الإمكان.
*يأتي اليوم الأستاذ محمود الشين مسرجا جواده وهو يتكئ على حيادية منعته من الانتماء لأي تيار سياسي وشاعرية فذة تجعل من لغته أقرب إلى الإبداع من كتابة المقال وتوثيق الأحداث التاريخية ليكتب عن قصته مع أسوء كارثة في العالم، فهو يجيد التعبير الواضح والجميل في آن واحد عن افكاره وعواطفه وعن زمانه ورؤيته للحياة ويمتلك حساسية مرهفة قادرة على تحويل الكلمات المألوفة إلى كلمات يبعث على التفكير أو يلهب العاطفة، بذلك إستطاع من تحويل سرد النص التاريخي إلى حكاية تتفوق بإحداثياتها على حدث التاريخ نفسه فهو لا يعتمد على ذيوع الحكاية التاريخية بل يعمد جاهدا إلى نقل القارئ إلى موقع النص الأصلي بل ويبدو هذا القارئ مشاركاً فاعلاً في تفاصيل مشهد الحكي واستحضار الصور تاريخية ولاشك أن استحضار التاريخ بأحداثه صنع حالة من الدهشة الدائمة للاكتشاف داخل النص الذي يكتبه، فمحمود يخلق إيقاع إزاء الحدث الذي يبدو قلقا ومرتعدا مما يحفز القارئ في انفعاله صوب النص من ناحية ويعزز التكوين السردي غير المشابه من ناحية أخرى فيمرر قدرا معرفيا مذهلا عبر سياقاته النصية الإبداعية أو السردية مستهدفاً خلق حالة من الوعي المعلوماتي لدى القارئ الذي يجعله شريكا فاعلا في النص فهذا ما جعل محمود من زمرة الكتاب الحجاجيين أي الذين يمتازون بإقامة الحجة عن طريق تدعيم الطرح الفكري بأطروحات فكرية وفلسفية بعضها مستمد من التراث.
*يطرح العلاقة بين الوطن والمواطن تلك العلاقة التي تحتاج إلى تحليل نفسي صوب الحاكم والوطن وقضايا المجتمع المعيشية وبعض القضايا المجتمعية كتريبة السكان و انتماءاتهم الأيديولوجية والزواج والارتقاء العلمي وغير ذلك من الأطروحات الاجتماعية التي تربط المواطن بوطنه ومجتمعه لذلك فإن القارئ لا حرج عليه في كونه مستلبا صوب كتابات محمود التي لا تستطيع الا أن تكمل قراءتها باهتمام بالغ.
نواصل