ويذرون وراءهم يوما ثقيلا

من المسافة صفر _ د.سلوى حسن صديق

*بعد تحرير الحي  البحراوي العتيق ودخول الجيش و مع الفرحة العارمة والنصر الجميل،  أول ما خطر للقلوب هو زيارة هذه المكلومة.

*تسامع الناس عن حالها ولكن ما بين مكذب ومصدق هرع الجميع  إليها, بعضهم جيرة قريبة وبعضهم من مربعات أخرى

طرقوا الباب المشرع و دون إستئذان دخلوا، وقد  علموا من القصة الحزينة أنه لم يبق أحد لُيستأذن منه ، قتل الجميع  وبقيت لوحدها عاجزة ملتاعة.

*قادهم إلى الداخل صوت ذابل لم يتبينوا كلماته، ربما سمعوا مرحباً أو حبابكم أو من أنتم ولكنها همهمات بعيدة,

تحوقل الجميع وسموا الله ثم دخلوا.

غرفة خاوية مظلمة تنبعث منها  رائحة أقرب لرائحة الدماء *

بلا أثاث إلّا لحاف فيه بقايا عظام إنسان منطوٍ لافرق  بينه وبين اللحاف المتهالك.

*أشعل أحدهم بطارية،ثم تبين، ( أنها هي ) قالها بفرح

جارتهم الخمسينية التي  باعد الأوغاد بينهم كانما مسافتهم أميال، كلهم كانوا قيد الإقامة الجبرية.

*خلال تلك الشهور القاسية كانوا يأكلون فتاتا وينتظرون صنابير المياه مساءً لتجود ببضع نقاط من الماء تتجمع وبالكاد تكفي للضرورات.

*تذكر القادمون والدموع تملأ أعينهم مجد ذلك البيت العريق وعزه وهي ريحانته تصول وتجول بين إخوتها الثلاث وزوجاتهم وأبنائهم.

*كانت مرجعية الحي في كل شئ ،تعرف أسرارهم و خباياهم يحبها الصغار والكبار فهي إلهام الفرحة والنكتة الحاضرة.

*لم تحس بحسرة أن فاتها قطار الزواج فقد عوضها الله هؤلاء الإخوة والأسرة الممتدة والبيت الكبير الذي ورثوه فأداروه بذات المحنة والحب.

*تداعت هذه الذكريات  وهم يقتربون منها, وضعوا أياديهم على الجسد النحيل الذي ماعاد يقوى على شئ،يجسونه في حب ومودة وإشفاق لم تتذوقه منذ شهور.

*كل من حضر يريد أن يواسيها في فقدها الجلل  إخوتها الثلاث، ولكنهم  خافوا ألا تقوى على الحديث وهي في هذه الحال اكتفوا بالبكاء المكتوم.

*أحد شهود العيان الذين شاركوا في دفن إخوتها  طاف بذهنه حالها لحظة أن أخذوا الجثامين لمواراتها الثري.

*كانت تتعلق ب(العنقريب) مثل طفل يمسك بثوب أمه تصرخ في هلع وجزع لا يوصف  تطوف بين الجثامين  الثلاث (ادفنونني معاهم)…تكررها وتعبدها وهم عجلى حرصاً ألا يسمعوا صوتها وهي وحيدة لا جار ولا أهل.

*لقد سمح الأوغاد لأربعة من أهل الحي بدفنهم, كانت هذه أخر مرة ترى فيها أحداً من المعارف.

*في ذاك اليوم الحزين دخل عليهم  الأوغاد وقد إعتادوا  أن يدخلوا ويخرجوا بلا هدف،

و ماذا بقي بالبيوت حتى يكون هدفا لهم؟ لقد أخذ حصيلة حياتهم اناس غريبوا الأطوار ولم يبق لهم  إناء رغم عمار الديار المعروف.

*حتى كوب الماء لم يجدوه, يشربون  ببقية قارورة  (جازفوها) من الشارع, كانت الأبواب كلها مشرعة بامرهم، لا حرمة لشئ ولا أمل للمقيمين  غير رحمة الله الواسعة, جاء إليهم الأوغاد في ذلك اليوم متأبطين شراً.

*تأملتهم الأخت الولهى على إخوتها،تعجبت أنها لم تشم فيهم رائحة الخمر المعتادة، أو أشربة المزاج المعروفة,

دخلوا يمشون البطر والغطرسة والكبرياء كأنهم قد ملكوا الدنيا.

*لم يسلموا ولم ينظروا أو يتأملوا هلع الإخوة وبالقرب منهم أختهم وقد  اجتمعوا في زاوية  واحدة كانهم عادوا لرحم أمهم ملتصقين ببعضهم ، كأنهم كتلة واحدة.

*أخذ الدعامي الوغد  الصفيق  يد الأول ثم أوقفه في منتصف العريشة التي تظلهم نهارا ثم أشهر سلاحه من المسافة صفر…لقد بلغت قلوب الإخوة الحناجر.

أطلقها رصاصته في لا مبالاة كأنه يطلقها على كلب ضال *

وقع الشهيد وسالت الدماء…تحرك قليلا في نفس العريشة وفعلها مع الثاني ثم الثالث,

الأخت منذ الطلقة الاولي وقعت مغشيا عليها,

أفاقت بعد حين لم تستطع تقديره لتجد نفسها سابحة في بركة دماء،دماءأخوتها.

*كل الحضور كانوا يبكون حد النحيب وهم يستجمعون قواهم للمؤاساة المستحيلة.

*لملم  أحد الحضور نفسه ثم خطب في الجمع قائلا ( لقد تأكدنا أن هؤلاء لا يقتلون لهدف أو سبب وإنما لشهوة  القتل عندهم مزاج وهو يوازي الفرح، ينتشون  حين تسيل الدماء مثل نشوة (عريس في ليل زفافه ) ثم ختم بقوله تعالي : (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا),صدق الله العظيم