تشييع القوى السياسية

 

على عسكوري

*في نهار يوم غائظ الحر في بورتسودان حملت مصباحي مثل الفيلسوف اليونانى (ديوجانس) وخرجت. وإن كان ديوجانس خرج يبحث عن رجل نزيه، فقد خرجت بدوري ابحث عن (القوى السياسية السودانية) طفت بالطرقات القريبة ولم أعثر على أثر لها وسألت ولا مجيب.

*حقيقة، لم يعد هناك أدنى شك أن القوى السياسية تعاني من موت فكري وتنظيمي غير مسبوق. تشتت حزب الأمة وتشظى وإندثر وأصبح هم قياداته البحث عن تجديد جوازات السفر, أما غريمه الحزب الاتحادي الذي طاله التشظي هو الآخر فقد تضاءلت قدراته على طرح المبادارات وقد كان في الماضي حزبا مبادرا.

*أما قطبي الرحى والتطرف (اليمين واليسار) فما انفكوا غارقين في التربص ببعضهما وكأننا لانزال نعيش في اتون الحرب الباردة! فالاسلاميون يعيشون في أحلام (زلوط) بالعودة للسلطة ببرنامجهم القديم ودولتهم التي أسقطها الشعب، وقد نجح اليسار أخيرا في جرهم إلى العودة للتعبير عن أحلامهم السلطوية وهو الأمر الذي قدح في مواقفهم ومبدئيتهم فيما يتعلق بمشاركتهم في القتال, أكثر ما ينجح فيه اليسار دائما  هو جرجرة واستفزاز الإسلاميين للكشف عن نواياهم, مرة أخرى بلع الإسلاميون الطعم وقدحوا في مواقفهم الوطنية الحالية، وأعطوا خصومهم (كرتا) ظلوا يبحثون عنه منذ إندلاع الحرب.

*أما اليسار فلا أحد يعلم أين ذهب وإلى ماذا إنتهى! فمثلا عرف عن الحزب الشيوعي أنه أكثر الأحزاب التي تصدر البيانات في كل أمر، فإن تعثرت بغلة في قرية شمال شرق الارجنتين يصدر الحزب بيانا يلعن فيه سلسفيل الامبريالية والبنك الدولي! لكن منذ إندلاع الحرب تبخرت البيانات ونضب معينها، حتى لم يعد هناك من يذكر الحزب رغم تاريخه التليد ودوره المعروف في إثراء الحياة العامة وتغذيتها بالافكار. غالب الظن أن الحزب العجوز في غرفة الانعاش للاسف، فتضعضع الحزب الشيوعي وإندثاره يؤثر سلبا على الإسلاميين، إذ  لن يجد الإسلاميون من يصارعونه ويرفعون في وجهه لافتات الإلحاد والزندقة..الخ, وسيضعف ذلك أطروحاتهم, فالأحزاب السياسية تحتاج لمن تصارعه، في غير ذلك تضمر وتموت, ولو كنت مكان الإسلاميين لدعمت سرا اليسار ففي بقائه وقوته بقاء وقوة لهم, وإن إندثر اليسار سيندثر اليمين لا محالة, وما سقطت الانقاذ إلا لأنها دمرت خصومها فلم تجد ما تصارعه، فاتجهت للصراع الداخلي الذي فرق صفها وانهكها فانقض خصومها عليها.

 

*وقع الكثيرون أن توفر الحركات المسلحة بديلا موضوعيا لتملاء الفراغ السياسي الذي نتج من تفكك القوى السياسية, إلا أن واقع الحال يقول إن الحركات انغمست في ذاتيتها وفشلت في توفير قيادة بديلة تجمع القوى السياسية حولها, واتضح أنها تفتقد الخيال والنظرة القومية, فكل ما يهم الحركات هو إتفاق جوبا للسلام، وقد كسر الاتفاق ظهرها بعد أن صنفها كقوى اقليمية فقط, ولو كنت مكان قادتها لاسقطت الإتفاق و أعلنت طرحا قوميا جديدا يستوعب كافة أقاليم السودان ويفتح المجال لقياداتها لتصبح قيادات قومية تتحدث عن كل قضايا الوطن وليس دارفور فقط.

*دون شك زرع اتفاق جوبا شكوكا كثيرة بين القوى السياسية وبين الحركات، والآن استصعب على الحركات الخروج من أطر الاتفاق الضيقة، إذ حرمها الإتفاق من التحدث في الكثير من القضايا القومية وأصبح من الصعب عليها جمع القوى السياسية  حولها مع تمسكها بالاتفاق.

*والحال كذلك، هنالك فراغ سياسي كبير في الساحة السياسية ناتج من فشل القوى السياسية في ايجاد شخصية قيادية تلتف حولها وتدعمها لتقدم بديلا موضوعيا للمواطنين وللعالم.

 

*عندما صرح الفريق مالك عقار أنه لا توجد قوى سياسية غضب البعض وانتقدوه، غير أني اتفق معه تماما في أن القوى السياسية على وشك الاندثار.

*ختاما، إن لم توحد الحرب القوى السياسية وتدفعها لتقديم طرح جديد يستوعب المتغيرات ويلبي تطلعات الجماهير  فسيتخطاها قطار التغيير, لقد أحدثت الحرب تغيرات عميقة في الواقع المجتمعي وتغير الصراع وتغيرت آلياته، فسودان بعد الحرب لن يكون هو السودان قبلها، وأي قوى سياسية لا تأخذ ذلك في الاعتبار سيشيعها الشعب إلى مثواها الأخير, وشخصيا سأكون بين من  سيذرفون دموع التماسيح عند قبرها

هذه الأرض لنا