المعاشيون وحرب السودان… وجوه منسية وجيوب خاوية
خلفت الحرب بين الجيش السوداني وقوات “الدعم السريع” المتمردة التي انطلقت من العاصمة الخرطوم منتصف أبريل (نيسان) 2023، أوضاعاً إنسانية بالغة السوء، تحولت معها حياة فئات المجتمع الضعيفة ومنهم الموظفون والمعاشيون المصنفون أصلاً ضمن شريحة محدودي الدخل، إلى حافة العوز والتسول بعدما عطلت المعارك إتمام إجراءات تقاعد البعض وتعذر على الآخرين الوصول إلى منافذ صرف المعاش الشهري على ضآلته.
مرارة وتسول
صورة قتامة للأوضاع المأسوية المرة التي يعيشها المعاشيون بالسودان قبل وبعد الحرب رسمها ولخص تفاصيلها قيادي سابق باتحاد معاشي الخدمة المدنية، مبيناً أن ما يقارب 10 في المئة يمثلون بما يقارب خمسة آلاف معاشي من إجمالي عدد معاشي الخدمة المدنية بولاية الخرطوم المقدر بأكثر من 100 ألف معاشي بالولاية، تحولوا إلى وجه من وجوه التسول الراقي في المناطق والمؤسسات العامة لدى زملائهم القدامى أو حتى داخل مساجد الأحياء والأسواق ممن جمعتهم بهم صلات اجتماعية أو رفقة الجوار في الأحياء.
ويقول القيادي السابق نفسه، والذي طلب عدم كشف هويته، “المعاشيون هم خبرات من الموظفين والمهنيين والعمال، أفنوا زهرة شبابهم في خدمة الدولة والمجتمع حتى لحظة تقاعدهم، كانوا في مقتبل أعمارهم ملء البصر والسمع، لكنهم بعد التقاعد باتوا يعيشون الآن على ما هو أقل من حد الكفاف وأثقلت الديون كاهلهم في انتظار المساعدات الإنسانية المتقطعة والتي قد تأتي مرة وتغيب لأشهر عدة”.
وكشف القيادي عن أن كل المطالبات التي قدمت إلى الجهات العليا والمتخصصة بإجراء معالجات تحسين قيمة الرواتب المعاشية لتواكب معدلات التضخم وتدهور قيمة العملة الوطنية مقابل الدولار وتآكل القيمة الشرائية للمعاشات ذهبت كلها أدراج الرياح.
مآسٍ وشكاوى
تقول الموظفة السابقة المعاشية (م. ن. م)، “أتبع لمعاشات ولاية الخرطوم ومنذ اندلاع الحرب وفراري مع أسرتي من العاصمة، لا أعلم هل المعاشات تذهب إلى حسابي بانتظام كل شهر أم لا وكيف ومن أين يمكنني صرفها وهل يمكن صرفها في ولاية أخرى وما الخطوات والإجراءات؟ فلا أحد شرح لنا وليس لدينا أي معلومات، لكني في كل الأحول لم أتمكن من صرف معاشي على قلته منذ بدأت الحرب”.
أما المعلمة (ع. س. أ) بمرحلة الأساس من منطقة المحيريبا بولاية الجزيرة فلها قصة أخرى وسؤال حائر فتقول، “تقاعدت بالمعاش الإجباري وسلمت الفايل الخاص بمعاشي لمكتب معاشات مدينة ود مدني قبل الحرب لاستكمال إجراءات استخراج المعاش، لكن شئياً لم يتم وأصبحت بعد الحرب بلا مرتب أو حتى معاش ولا أدري كيف أحصل على فوائد ما بعد الخدمة وجاري المعاش حتى اليوم؟”.
عدد من معاشيي مشروع الجزيرة الزراعي بولاية الجزيرة الواقعة تحت سيطرة قوات “الدعم السريع” المتمردة منذ نحو عام مضى أكدوا لنا أنهم لم يصرفوا فلساً واحداً من معاشاتهم منذ اندلاع الحرب.
مطالب بلا مجيب
طالب معاشيون تحدثوا لـ”اندبندنت عربية”، جهات الاختصاص في وزارتي الرعاية الاجتماعية والمالية وصندوق المعاشات الإفراج عن مستحقاتهم التي توقف صرفها من منحة العيدين المعدلة بالفئات الجديدة، إلى جانب منحة صندوق المعاشات لعيد الأضحى للعام الماضي، وفك تجميد معاشات الشهرين الأخيرين منذ 2023.
وقال معاشيون من الولايات الآمنة إنهم لم يصرف فروق معاشاتهم لمدة ستة أشهر بعد التعديلات التي طرأت على فئة المعاشات بتعديله من 9 آلاف جنيه سوداني (3.3 دولار) إلى 12 ألف جنيه (4.4 دولار)، على رغم أن القرار التعديل صادر منذ عامين وكانوا ينتظرون سريان التعديل منذ يوليو (تموز) 2022، وكذلك الفروق بين الفئة القديمة والجديدة عن الشهرين الأولين من عام 2023.
عقبة الحرب
يقول المتقاعد (ص. س. ع)، “تلقيت قبل اندلاع الحرب بأيام إخطاراً بوصول معاشي عن أبريل 2023 إلى البنك، لكن ولسوء الحظ نشبت المعارك قبل أن أتمكن من صرفه، ومنذ ذلك الوقت لا أعرف كيف أصل إليه”. ويتابع، “المعاش أصلاً لم يكن يكفي لتلبية خمسة في المئة من حاجاتنا في ظل الارتفاع الجنوني لكلف المعيشة، وتخلينا عن كثير من السلع الغالية مثل اللحوم وغيرها منذ نشوب الحرب، لكن على رغم ذلك تسير أوضاعنا من سيئ إلى أسوأ بسبب توقف المعاش، وأصبحنا نعتمد على مساعدات الميسورين من الأقارب أو الأصدقاء، أو بالأحرى عالة أو متسولون من نوع آخر”.
على الصعيد نفسه، يشير المعاشي عماد عبدالقادر أحمد إلى أن تدهور أوضاع المعاشيين بدأ بتوقف صرف مستحقاتهم مع نشوب الحرب، ولم يبدأ صرفها إلا بعد ثمانية أشهر من اندلاع القتال، فضلاً عن أنه وبعد استئناف إجراءات الصرف تمكن المحظوظون فقط من صرف معاشاتهم، بسبب الصعوبات الشديدة والكلفة الكبيرة في الوصول إلى منافذ الصرف.
عذاب الملاحقة
يوضح أحمد أن المعاشيين بولاية الخرطوم التي ما زالت المعارك تدور فيها، وجدوا أنفسهم مضطرين للسفر إلى المناطق الآمنة في محاولة لمعالجة وضعهم وصرف معاشاتهم، بخاصة اللذين كانوا يصرفون عبر البطاقات المصرفية، لكنهم أيضاً واجهوا تعقيدات بيروقراطية كبيرة في التسجيل أو حتى عمل توكيل لشخص آخر موثوق للصرف نيابة عنهم. ويتابع، “بعض المعاشيين ممن ذهبوا إلى مدن أخرى بحثاً عن معاشاتهم تعرضوا هناك لظروف صعبة أمضى بعضهم أياماً في السكن داخل المساجد أو الشوارع حتى يتمكنوا من تسجيل أسمائهم ضمن قوائم الصرف بالولاية الأخرى”.
يردف، “كل ذلك التعب ومبلغ المعاش بالنسبة لمتقاعد بالدرجة الثالثة القيادية العليا بالخدمة المدنية لا يتجاوز مبلغ 56 ألف جنيه سوداني (20 دولاراً أميركياً بالسوق الموازية) في الشهر في ظل وضع اقتصادي صعب ومتدهور، علماً أنه في حالة لجوء المعاشي للاستدانة من صندوق المعاشات فإن السقف الأعلى الذي يمكن الحصول عليه 90 ألف جنيه سوداني (32 دولاراً) لا غير تخصم منه على مدى 10 أشهر”، مبيناً أن هذا المبلغ لا يكاد يغطي حاجات ثلاثة أيام لأسرة صغيرة.
تبريرات وتوضيحات
حول شكوى معظم المعاشيين من الصعوبة البالغة في الوصول إلى منافذ الصرف، أوضحت صفاء الأمين مدير الرعاية الاجتماعية بوزارة الرعاية والتنمية الاجتماعية المركزية أن تلك الشكوى هي مسؤولية الصندوق القومي للمعاشات، مشيرة إلى أنها معاناة تمثل كل العاملين بالدولة، بخاصة الموجودين في الولايات الساخنة التي تشهد اشتباكات ومعارك، كما أن معظم الولايات ما زالت متأثرة بالحرب.
وأوضح مصدر مسؤول بالصندوق القومي للمعاشات أن الصندوق لا يزال يقوم بدوره من خلال مكاتبه الفرعية بالولايات الآمنة التي لم تتوقف عن العمل منذ نشوب الحرب، وما زالت تقوم بدورها كاملاً في حل الإشكاليات التي تواجه المعاشيين من الولايات الأخرى المتأثرة بالحرب.
ونوه المصدر إلى أن المعاشيين النازحين من ولايات أخرى من المدرجين أصلاً في كشوفات البنوك لدى الصندوق بإمكانهم الصرف من أي من فرع للبنوك المخصصة لتحويل معاشاتهم في أي منطقة بالسودان، لا سيما أن كل البنوك أصبح الآن لديها فروع في الولايات.
أما الذين أحضروا ملفاتهم إلى الصندوق بغرض اكتمال إجراءات إدراجهم في كشوفات المعاشيين واندلعت الحرب قبل أن تكتمل الإجراءات، فهؤلاء هم أصحاب المشكلة الحقيقية بحسب المسؤول، لأن ملفاتهم لا تزال عالقة هناك، سواء في ولاية الخرطوم أو بمدينة ود مدني بولاية الجزيرة وكل المناطق الغير آمنه حتى الآن.
لم يستبعد المصدر نفسه أن تكون تلك الملفات العالقة تأثرت بالحرائق والدمار الذي حدث في مؤسسات الدولة المختلفة في تلك المناطق، لكنه طمأن في الوقت نفسه بأنه “في كل الأحوال فإن قوانين الخدمة العامة تضمنت حلولاً لكل مثل تلك الإشكاليات المحتملة أو المتوقعة”.
ضعف الحماية
على الصعيد نفسه انتقدت دراسة حول أوضاع الحماية الاجتماعية بالسودان في ظل الحرب، أعدها مدني عباس مدني وزير التجارة السابق تعدد المؤسسات العاملة في مجال الحماية الاجتماعية بالسودان مثل (ديوان الزكاة، مفوضية مكافحة الفقر، صندوق المعاشات، هيئة التأمين الصحي، الصندوق القومي للتأمين الاجتماعي) وغيرها، مما يؤدي إلى تشرذم نظام الحماية الاجتماعية والدور الذي تقوم به هذه المؤسسات في توفير الحق في الضمان الاجتماعي قبل نشوب الحرب.
وكشفت الدراسة عن أنه نتيجة لذلك التشرذم زادت نسبة الفقر في السودان لتطال أكثر من 65 في المئة من السكان وفقاً لاستراتيجية مكافحة الفقر التي صدرت عن وزارة المالية عام 2021. وارتفعت وفقاً للدراسة نسبة التسرب من الدراسة وضعفت القدرة على النفاذ إلى الخدمات الصحية، بصورة تثير تساؤلات حول قدرة مؤسسات الحماية الاجتماعية على التصدي للتحديات المعيشية وتحمل مسؤولياتها.
وتابعت، “منذ اندلاع الحرب تعطلت مؤسسات الدولة المركزية بما فيها معظم المؤسسات العاملة في مجال الحماية الاجتماعية، باستثناء بعض مؤسسات الزكاة في بعض الولايات، بل وتعطلت حتى قدرة الدولة على تأمين مرتبات العاملين في القطاع العام، بخاصة مع تعطل النظام المصرفي بنسبة كبيرة للغاية، حيث لا تعمل سوى فروع محدودة لبنك الخرطوم وهو أحد البنوك الخاصة الكبيرة في السودان”.
تحديات وأخطار
دراسة الوزير مدني أشارت إلى تحديات وأخطار كبيرة عدة تواجه قدرة نظم ومؤسسات الحماية الاجتماعية بالسودان في لعب دورها المأمول في ظل الحرب، أبرزها توقف مؤسسات الحماية الاجتماعية عن العمل على مستوى المركز وتعثر عمل الجهاز المصرفي وتأثيره في قدرة المؤسسات الحكومية على توفير الموارد لدعم برامج الحماية الاجتماعية ودفع معاشات الموظفين في القطاع العام، إلى جانب غياب الأمان في مناطق النزاع وعرقلة ذلك لتوفر خدمات الحماية الاجتماعية.
وتسبب عدم التزام الأطراف المتحاربة بالهدن الإنسانية وتعرض عديد من الناشطين القاعديين في لجان المقاومة للاعتقال، في تعثر إيصال المساعدات والخدمات لمستحقيها. كما تراجع بحسب الدراسة، دور المنظمات الدولية والوطنية التي تقدم خدمات تتعلق بالحماية الاجتماعية بسبب النزاع، إذ تقع معظم مكاتبها الرئيسة في العاصمة الخرطوم بعد احتلال مقار ونهب ممتلكات عديد منها بواسطة قوات الدعم السريع ومجموعات النهب التي نشطت بعد الحرب، مما أدى إلى نزوح العاملين في تلك المنظمات إلى ولايات أخرى وغادر بعضهم السودان.