
ربّة بيت ذكية
هادي المياح
*لبضعةِ أيامٍ ، لازمت البيت في خلوة اجبارية، اشعرتني بالملل. وبتُّ غير قادر على أية حركة أو نشاط، مثل بطارية أوشكت على النفاد. حتى محادثات الشات لم تعد مجزية كما كانت، بل صارت مملة هي الاخرى، لا تصلح لتفريغ ادنى قدر من الأيونات السالبة المتسللة فينا يوما بعد يوم.
*ومثل بركان تفجر في سكوني الداخلي، انبثقت فكرة من بين الركام، فرضت نفسها على ذهني، و غمرتني بفيض من الخدر اللذيذ. فقد وجدتُ ما من شأنه أن يرفع ولو بمّليمات قليلة من طاقتي الإيجابية، ويغير مزاجي.
*أوليتُ اهتمامي الكبير للبداية قبل أن أخوض في مراحل متقدمة أكثر تعقيدا، فكّرت أن أتصل بزوجتي المشغولة في المطبخ، وأكذّب عليها، أدّعي اني أكلمها من خارج المنزل، أُخبئ نفسي دون أن تراني أو تشعر بوجودي وأنا اخطف من أمامها كالمعتاد، أو تسمع صوتي عن قرب.
*أدرك أني لا أجيد التخفي بشكل تام، إلا إني تدبرت الأمر هذه المرة، وأخفيت نفسي في حيز صغير كتمته عنها. لكنها إمرأة حادة الذكاء، وربما لا تنطلي حِيلَي عليها وتمر بسلام.
*ركّزت جيدا بما أفعل، لأن تنفيذ خطة غير مألوفة يحتاج إلى ذكاء يضاهي الطرف الآخر بذكاءه أو أكبر منه، وقع اختياري لأول وهلة على وسيلة الاتصال بالواتس أب، الواتس أب يمنحني مكالمة مجانية مفتوحة، صحيح انها قد لا تختلف كثيرا.. لكن لا، (تراجعت)..قد توحي لها النغمة بأنني ما زلت موجودا في البيت!
وبعد مهلة اضافية من التفكير، قررت أن أتصل بها على رقم الشريحة، وكنت مختبئاً في غرفة الاستقبال، منزوياً في ركن أشبه بالنقطة العمياء بالنسبة لسائق افتراضي يقود سيارته في طريقه إلى داخل غرفة، وتحسُّبًا من افتضاح أمري، وقفت خلف الباب، في المساحة الأمينة المحصورة مع الضلع الموارب من المكتبة، حيث يوفر لي ذلك اختفاءً تاما.
*لكني حين سمعت صوتها وهي تدفع الباب فجأة باتجاهي ، شعرت بهبوط انفاسي كأنني فقدت قدرتي على التنفس لولا انني سمعتها تقول حين لم تر لي أثرا:
*(أخيرًا.. ها أنت تغادر عرينك) .. وعادت من حيث أتت، لم اخف شعوري، همست مع نفسي بأن هذه المرأة ليست ربة بيت فقط.
*كانت ربّة بيتي تقضي معظم وقتها في المطبخ، أمام أنظار العائلة، تعدُّ تجاربها لتحضير وجبات طهي تستخرجها من كتب الطبخ، وتقوم بتزجيتها على مدار الوقت، فتبدو كامرأة عصرية مجدِّدة، وبالرغم من سعادتي وتذوقي لما تقدمه، كنت ارأف بحالها واقول لها : لِمَ تتعبين نفسك و تصرفين الكثير من الوقت في تجهيز وجبات بإمكاننا توفيرها عن طريق (الدليڤري)، إلا أنها كانت ترفض مقترحاتي مصرحة (أن هذه الاكلات التى نعملها بايدينا افضل بكثير من التي تُصنّع بأيدي الغير) كأنها تذكّر بمعنى عبارة قديمة، لكن بصياغة مختلفة: (أن الوجبة التي تخرج من نفس طيبة تكون حتما لذيذة وطيبة).
*وبسبب شغفها الكبير بعمل الاكلات، نادرا ما أراها تلجأ للبحث عن ارقام (الدليفري) لطلب وجبة سريعة، قد تأتي متأخرة أو نجدها استبدلت بوجبة أخرى بسبب أخطاء في التوزيع.
*للمرة الثانية، انقر على رقم تلفونها، واسمع رنينه يأتيني من ناحية المطبخ، وكنت أخمّن كما في كل مرة ، أنها ستفرح حين يظهر لها رقمي، وستردّ بحماس على مكالمتي ، كما لو أنني اتصل بها من أوروبا، عند ذاك تصبح فرحتي مزدوجة، مرة لأنها زودتني بشحنة إيجابية، وأخرى بمفاجأة ظهوري لها من موقع قريب، من داخل البيت.
*أدرك تماما، كلما كانت المسافات بعيدة، تبعث على الحنان أكثر من المسافات القريبة التي تختص في تحقيق الطمأنينة. وهذا ما يفسر شعورنا بالاطمئنان حين نكون قريبين من بعض، حتى لو كنا صامتين، أو منشغلين بامورنا الخاصة.
*بسرعة تم الاتصال ما بيننا، وشعرت بذبذبات صوتها تتسارع مع دقات قلبي وهي تتحدث معي عبر الاثير كأنني ما زلت في الخارج. حديثها من داخل المطبخ يبعث فيّ الوله والحنان، ما جعلني أحس كأنني خارج المنزل فعلا، في الخانة التي يولد فيها الحب ومنها تنبعث شحناته الكهرومغناطيسية، طالما كانت تستغل المكالمات وتوصيني بالاعتناء في نفسي وجلب ما تطلبه من مواد متممة تدخل ضمن مكونات وجباتها الغذائية، ولشدة حرصها في استغلال الوقت، صارت كلماتها تأتيني متسارعة ونبرات صوتها متلاحقة كأنها تطارد بعضها البعض..
* بعد انتهاء المكالمة، خطوتُ باتجاه المطبخ. دنوت منها ببطء حتى صار ظلي منتصبا خلفها كالعمود. بحركة مباغتة، استدارت نحوي وقد انخطفت ملامح وجهها كليا من هلع المفاجأة. سارعت من فوري لمعالجة الموقف، فقد بدا لي أكثر تعقيدا مما توقعت، كنت اظن انها مزحة خفيفة وتنتهي، لا أن تتحول إلى ما يشبه التقاطةٍ مزعجة من كاميرا خفية! المهم انتهيت الى حالة مختلفة، تجاذبني فيها القلق والعطف في آن واحد. كما لو كنت أنا من تعرض للموقف وليست هي.
*بعد تلاشي أثر المفاجأة رويدا، كان من السهل علي أن أدرك كل شيء، عدا ما دار بيننا من الحديث الذي تلا ذلك، إذ أنه لا يقلُّ بتأثيره في تفريغ الشحنات السالبة، عن تأثير مانعة صواعق مثبته فوق قمة ناطحة سحاب.
*كاتب عراقي