رحلة حزن النبيل الغالي

أحمد عمر خوجلي 

* بينما كانت شمس الأربعاء الموافق التاسع من إكتوبر 2024م تغرب، كان الأستاذ الكاتب والصحفي نبيل غالي يختم كتابة أسوأ فصول حياته ويأمل ونأمل أن يكون القادم فيه السلوى والسلوان..
* ما كان يظن أن ما أرادته المليشيا سيطول وتطول معه معاناته،
* يقول نبيل بحزن نبيل وصوت خفيض: (بدأت معاناتي كسائر السودانيين بالحرب قبل نحو العام والنصف، ومثل الكثير من أبناء شعبي اضطررت لهجّر منزلي بالخرطوم)..
* نعم إنها الحرب اجبرته على المغادرة، ترك ممتلكاته ومستودع كتبه وإرشيفه وراء ظهره، بيت نبيل بمحتوياته يعد من المواقع التي تستحق حمايتها وحفظ ما فيها، فإذا تشاطرنا حزن فقد الناس لممتلكاتهم ومقتنياتهم فما يحدث في بيت نبيل يجعلنا كلنا أهل الفقد..
* قال نبيل: (يُممت شطر سنار في معية زوجتي نجاة عبد المسيح)
* سنار مدينة ترحب دائما بالعائد إليها، بل وفي هذه الأزمة فتحت أبوابها لكل قاصد..زائر.. نازح..غير أنها قطعا كانت فرحتها طاغية بعودة الابن النبيل الغالي..
* وفي سنار تواصلت المعاناة فالزوجة مريضة منذ سنوات طويلة ، والعائلة موزعة بين المدن والمنافي وأراضي النزوح، في سنار واصل نبيل هوايته في المصابرة وتحمل الصعاب المعنوية والمادية مع وقفة مقدرة مع الاعلاميين والأدباء والجيران هناك.
* يعود نبيل ليحكي عن رحلة الامتحان والصبر: ( وهنا في سنار لحقت بنا الإختلالات الأمنية واستهداف المليشيا لمناطق سنار فكان لابد من الخروج العاجل لحاجة نجاة عبدالمسيح للرعاية الطبية، فكان الاتجاه الى بوتسودان..)
* وصل الى بورتسودان رفقة زوجته المريضة، المدينة مكتظة، لكنهما وجدا مكانا يأويهما..
* قال: ( احتضنتنا كنيسة السيدة مريم العذراء في بورتسودان مع مجموعة من أبناء الطائفة القبطية الوافدين، احتضنتنا الكنيسة وقدمت لنا ما يلزم بقدر الإمكان من اعانات)
* ولأني كنت هنا في بورتسودان سعدت بمقابلته ورفقته مما أتاح لي أن أكون شاهد على معاناته، دخل في اصعب مراحل امتحان والصبر عندما تفاقمت حالة زوجته وإزدادت سوءا.. وبدأت رحلة البحث عن مشفى وعن شفاء وعن سرير في عنبر العناية المركزة، هرولة هنا وهناك ..ولكن في ظل البحث والانتظار توفيت نجاة وكأنها أرادت أن ترفع عن زوجها عبء البحث عن علاجها ولم تدري أن موتها رمى عليه جبال من حزن وإن ظل متمسكا بصبره، أشهد أن حزنه يكاد يتجسد ككائن حي..
* قلنا له مواسين : الموت راحة للميت..
* لسان حاله كأنه يهمس: (تضاعفت معاناتي، فقد انتهت رحلة طويلة من السنوات والعشرة والمحبة، كانت تتقاسم معي كل الأيام.. الفرح.. الحلم..الصبر والألم.. والآن صار عليّ ان أمضي وحيدا ..أن أقاتل وحيدا)
* يجلس الآن نبيل كما هو حاله منذ عقود إلا من رصيد كبير من النبل والإخاء وحسن التعامل مع الناس..
* شمس الأربعاء غربت ونبيل غالي ينهي هذه الرحلة من المعاناة، يجر حقيبته ومقصده قاهرة المعز حتى يلتئم مع باقي افراد العائلة.. قال: ( نجتمع مع الابنة نجلاء والأحفاد وعدد من الاخوة والاخوات)، يبتسم ابتسامة خفيفة..
* الآن نبيل وقد وصل إلى القاهرة لكني أجزم بحكم معرفتي بالرجل أن روحه معلقة بالسودان وبسنار، وأن عقله سيظل مشغولا بالعودة الى بيته حيث قصص حياته ونجاة وحكايات الناس التي صاغ بعضها في القصة والأدب وبعضها في الصحافة يحتاج الى الاطمئنان على ارشيف ضخم اشتمل على تاريخ وفصول من الثقافة والابداع الادبي السوداني حتى صار (دار وثائق مصغرة) كما كان يقول.
* من زار بيت نبيل يجد في مكتبه الشعراء والادباء من كل الحقب والأعمار كانوا أهل أنسه ومصدر سعادته، يسعد بمجالستهم حينما يتصفح كتبهم ومنتوج عطاءهم الادبي والثقافي ويتابع دراساتهم، تكاد تراهم معه عيانا بيانا.. عيسى الحلو، إبراهيم إسحق، مبارك الصادق، و مصطفى سند والمجذوب و لك أن تحصى المئات..
* وهناك ايضا من ربطتهم به علاقة متينة ووثيقة أمثال الراحلين ، خوجلي شكر الله الأديب الداعية، واحمد فؤاد عبد العظيم .. قال لي نبيل : (أحمد فؤاد جاءني في يوم يحمل كل قصاصاته وأوراقه ليضعها أمانة في عنقي..) وهذا ما حدث فقد قال لنبيل: (وجدت انك ستكون أحرص من ابنائي في المحافظة على حصيلتي وكتاباتي في مجال القصة والرواية)..
* .غادر نبيل وروحه معلقة بعالمه الخاص وبالسودان، يتمنى أن تنجلي الغمة وتنتهي الحرب ويعود مسارعا ملهوفا يلملم مكتبته ويطمئن على شقاء عمره ومشروعاته قيد الإجراء المتصلة بالتوثيق للانتاج الادبي السوداني.
* وأنا أودعه حمّلني مسئولية أن انقل شكره تقديره وتحياته لكن من عرف ومن لم يعرف بدءً الأنبا صرابامون أسقف عطبرة وأم درمان وشمال السودان وبالسيد المدير العام لجهاز المخابرات العامة الفريق أول/ محمد إبراهيم مفضل ولإدارة واسرة إذاعة بلادي – الزميلين وليد العوض ووجدي الكردي – الذين جعلوا ما كان صعبا ومستحيلا سهلا وممكنا،
* قائمة طويلة ظل يتذكرهم نبيل النبيل بالشكر .. امتد شكره للسيد وزير الداخلية ومدير الجوازات، وقدم الشكر كذلك الى رئيس اتحاد الصحفيين السودانيين الصادق الرزيقي الذي زاره في الكنيسة وقدم له واجب العزاء وسعى مع آخرين ولا يزال في انزال الأستاذ نبيل غالي المنزلة التي يستحقها، والزملاء في نقابة الصحفيين الذين قال إنهم ظلوا على تواصل معه منذ وقت مبكر وقدموا له الكثير من المساعدات، ووصية الاستاذ نبيل تمتد بتوصيل صوت وآيات الشكر للزملاء الصحفيين والصحفيات في البحر الأحمر من الوافدين والمقيمين ومن هم في غيرها من الولايات الذين ظلوا يسألون عنه باستمرار..خص الأستاذ بعضهم بالاسم مثل زهرة عكاشة، محمد عبد الباقي والزميلة الصحفية وجدان طلحة التي تجاوز بجهدها الكثير من العقبات والمطبات المتصلة بالأرواق الثبوتية وإجراءات السفر.
* وكذلك لم ينس المخرج الزميل مخاوي الذي اكمل معه حلقات توثيقية كان قد بدأها بالخرطوم ، والزميل اسماعيل محمود ايضا انجز معه حلقات الحكاي السناري تناولت شذرات من سيرته الذاتية ، وبالطبع لا ينس جميع الاهل ومنسوبي الطائفة القبطية ورجالاتها في سنار وفي بورتسودان.
* غادر نبيل الى مصر ولكن حمل معه السودان.. وكلنا في انتظار عودته و(لمة) جامعة في بيته.. نرمم ما حاق به ونزيل غبار الحرب مع على رفوف مكتبته وكتبه ومقتنياته..لتعود الى نبيل كامل عافيته..