من غير وداع الحلقة العاشرة

من المسافة صفر _ د.سلوي حسن صديق  

من صغرها عرفت بشخصيتها السوية القوية فكان ابوها يناديها يا (ستهم) فهي صاحبة الراي السديد والقول الفصل بين اخوانها وأخواتها، لا احد يتخطاها ورغم الاعمار المتقاربة إلا ان الله حباها القبول والحب من الجميع.
كذا تربت محبوبة جميلة.
ثم ساقتها الاقدار إلي اسرة ثرية عاشت فيها انضر ايامها مع زوج ودود انجبت له ابنة وإبن
لم يتجاوزا سني الدراسة الاولي بعد.
حلت الحرب اللئيمة القاسية وجاءت معها الالام والدموع.
فما ان بدأ الاوغاد دخول المنازل حتي اشار إليهم المرشدون الحاقدون إلي ان هاهنا ضالتكم.
هذا البيت الذي كان يطعم بلا من ولا اذي فيه كل شئ ..مال وفير وعفش جميل وبضاعة غير مزجاة.
جاءوا إليه قبل ان يحزم المساء امره بالمغادرة .
اول مافعلوه ان وضعوا حراسة مدججة امام البيت.
ثم توالت افعالهم كل يوم تشين سلوكهم القبيح فكرة جديدة.
الزوجة المكلومة اصبح همها النجاة مهما كان الثمن خوفا علي الصغار .
اما هو فكان خوفه عليها اكبر من كل شئ .
كذا تعودا فالود الذي بينهما يملأ المساحات ويتمدد.
منذ ان إلتقيا اصبحا روحا واحدة في جسدين لا يفترقان إلا للضرورة مع كترة اسفاره واعماله النجارية الناجحة.
تنتظره مثل طفل شوشه غياب الوالدين.
حياتهما هي واحتهما الظليلة يتمناها ويغبطها الأهل والأصدقاء .
في ذاك اليوم الحزين ومع توالي الإستفزازات جاءت عربة غير التي إعتادوها امام الباب شكلها مختلف.
علي نفس نهجهم في الإثارة واللامبالاة دخلوا ثم احدثوا جلبة غريبة بعدها إقتادوه كأنه شاة. ما بين صياح الطفلين وبكائها المخنوق خرجوا به.. الي اين لا احد يعلم .
تلك النظرات الملتاعة العاجزة والحب المتناثر كان اخر عهدهما ببعض وهما لايدريان انه الوداع .
بعد اخذه عاشت ايامها سوادا ،فقد تمكن الاوغاد اكثر واصبحوا باطشين كأن الدنيا لا تسع غيرهم لاحرمة ولا اخلاق ولارجولة اونخوة.
اصبحت تتكفف الساكنين الجدد في الحي لتطعم صغارها واغلبهم كانوا ممن هم في دائرة إحسانها.
مرت الثلاث اشهر ثقيلة طعمها حنظلا والكل يتوسل إليها ان تخرج وهي تصر وتحلف إلا بعد خروجه من اسره المجهول، ودائما ما تصدهم بقولها
(قلبي يحدثني انه في مصيبة).
ذات ليل اسود من ايام الإنتظار المرتجفة طرق احدهم الباب بعنف .
جمعت الصغار وخرجت لتفتح بشجاعتها المعهودة، فكانت المفاجأة .
اطلقو سراحه.
لم تصدق عينيها وهي تراه رغم رث الثياب والهزال والعيون الزائغة كادت تطير فرحا.
اقتربت هي والصغار منه يحادثونه ويبثونه ما بهم ولكنه لم يستجب.
يا لطف الله..(ابوكم ما طببعي )صرخت وهي تضم الصغيرين في حسرة والم هستيري.
اصبح الصباح وقد حزمت امرها علي المغادرة.
اين الطريق والي اين وكيف الوصول ؟ كلها اسئلة بلا إجابات.
خلال هذه الفترة تعقدت الأمور أكثر بل اصبح كل شى مستحيلا.
خرجت بلا إمتعة، ومن اين لها الامتعة وقد اخذ الكلاب كل شئ.
اشار لها الجيران علي عربة (كارو) في طرف الحي.
في ذاك الوقت كان رفيق دربها يسبح في عالم اخر، لا يعرف اين هو ولا من حوله .
ركبوا العربة(الفارهة) في صعوبة وكانت اخرهم هي بعد ان إطمأنت انهم إستووا علي ظهرها.
تحركت العربة وهي سارحة تتأمل الصغيرين وهما علي هذه الحال ثم ترتد عيناها لرعاية همها الجديد.
اصبحت العربة الكارو وسيلة الخروج الرئيسية وهي تجري بهم في شوارع وعرة.
الأم المكلومة تقسم جهدها ونظراتها لتثبيتهم. كل مرة تتهاوي فيها العربة الكارو يكاد يسقط قلبها إشفاقا عليهم.
هذه المرة طار حصانها فوقع في حفرة سقطت علي إثرها هي وحدها علي الارض الصلبة قدر عجيب.
رفعوها فوجدوها نازفة بشدة.
وصلوا بالكاد الي اقرب مركز صحي علي مسافة ساعتين علي ذات الكارو .
ادخلوها وهي ما بين الحياة والموت والصغيران ينظران بعيون دامعة والأب الشارد لا يؤبه له.
مرت دقائق الإنتظار علي الصغيرين كأنها اعوام .
ثم خرج الطبيب يمسح دمعة..
لقد فارقت الحياة.
كان ذاك اخر عهدهما بها واخر وداع للصغيريين ووالدهما.