المناظرة الرئاسية والسودان الآخر في مفاهيمهم (١-٣)

 

علي عسكوري 

 

*عبّر بعض المعلقين والكتاب عن استيائهم لعدم تناول مرشحي الرئاسة الأمريكية لقضية الحرب في السودان خلال المناظرة التي جرت بينهما قبل عدة أيام. ذلك الإستياء والتبرم دفعني لكتابة هذا المقال.

*بدأ لي وكأن هؤلاء في تبرمهم من التجاهل الذي وقع على حرب السودان نسوا تاريخ الحضارة الغربية التي تقف أمريكا اليوم علي سنامها كقائد وحيد لها منذ نهاية الحرب الكونية الثانية. وأمريكا خلافا لكل الحضارات السابقة خرجت الي الحياة من مجتمع ناضج لأن الأوروبيون هاجروا اليها بكامل خبراتهم ومعارفهم ومفاهيمهم الدنيوية في مختلف ضروب الحياة بما فيها العنف والحروب. *ولذلك فتاريخ أمريكا بصورة او بأخرى يعتبر امتدادا لتاريخ أوروبا بكل ما يحمل ذلك التاريخ من أوزار ومآسي ونكبات وجرائم ضد شعوب الأرض، ولذلك من الطبيعي أن تسير أمريكا في ذات النهج القديم من عدوان على الشعوب واستغلالها، فالشئ من معدنه لا يستغرب، كما يقال.

*أحاول في هذا المقال أن أقلب قليلا في صفحات ماضي الحضارة الغربية لتوضيح المفاهيم التي تقوم عليها فيما يتعلق بنظرتها للمجتمعات الأخرى. ولأن تلك المفاهيم قديمة وثابتة ومطبقة حتي اليوم، لذلك لا يهتم مرشحا الرئاسة الحاليين بمشكلات مجتمعات أخرى إلا بالقدر الذي يتقاطع أو يتفق مع مصالحهم. ذلك هو ما يقتضيه نظام مؤسسة الدولة في الحضارة الغربية وهي دولة شعوبية ممعنة في العنصرية (راجع معاهدة وستفاليا 1648). مع أخذ تلك الحقيقة في الحسبان، فالمرشحين لا يملكان إلا أن يتحدثا بمهنية عالية ومحسوبة وفي إطار مرسوم مسبقا يعبّر مباشرة عن المصالح المتفق عليها بين الطبقات الحاكمة بما لا يمس المرتكزات الاساسية لمؤسسة الدولة في الغرب.

*رغم ضخامة وتشعب هذا الموضوع حيث اتناول حقب تاريخية من قبل الميلاد سأحاول تقريب الفكرة للقارئ في اختصار لحقب التاريخ الطويلة آمل ان لا يكون مخلا. سأشير إشارات سريعة لمن أسسوا لمرتكزات النظرة الغربية للآخرين واترك للراغبين مهمة البحث أكثر حتي يعلم الناس المنطلقات الراسخة التي تحكم سياسيات الغرب عامة في تعامله مع الشعوب الأخري.

* للحضارة الغربية جذور عنصرية بالغة القدم بدأت منذ أيام الحضارة الإغريقية او اليونانية (أثينا) مرورا بالجمهورية (لاحقا الامبراطورية) الرومانية ثم البرتغالية والإسبانية و هابسبيرغ و الفرنسية والإنجليزية وغيرها وانتهاء حاليا بأمريكا. في كل تلك الأمبراطوريات استمرت الأسس التي قامت عليها الحضارة الغربية ثابتة لم تتغير استراتيجياتها وان تغيّر الاشخاص وانتقل مركز القرار جغرافيا.

* قامت الحضارة الغربية على مبادئ عنصرية محضة شكّل الاسترقاق مكونها الأساسي كما نناقش.

*كانت الحضارتين اليونانية والرومانية يعتمدان على الرق بصورة كبيرة وهي السمة الغالبة التي شكّلت تلك الحضارات (إن شئت). قامت الحضارتان على مفهوم أساسي يقول ان اليونانيين و الرومان هم الأحرار، اما بقية الشعوب فهي دونهم ولهم حق استرقاقها متي ما تمكّنوا منها في الحروب حيث كان أسري الحروب يشكلون عماد الأرقاء آنئذ.

*نعلم أن أسس الحضارة الغربية تعود إلى أثينا وفلاسفتها مثل إفلاطون الذي كان ضد الديمقراطية ولا يؤمن بها، رغم ذلك كانت نظرته للاسترقاق الذي كان يمثل عماد الحياة والإنتاج أفضل من تلميذه أرسطو. فمع قبول افلاطون با سترقاق الآخرين كحق مكتسب لليونانيين رأى ضرورة ( أن يتم الفصل في المزرعة بين اولئك الذين يتحدثون لغة واحدة عن بعضهم البعض لمنعهم من التآمر) كان ذلك أقصى ما ذهب إليه الرجل في حق الأرقاء. أما تلميذه ارسطو فقد رأى أن العبودية جينات طبيعية تجري في عروق الأرقاء. عند أرسطو فالعبد عبدا لأنه ولد عبدا، أى أنه عبد بطبيعته لا يشترك في العقل إلا بقدر ما يستطيع ادراكه لكنه لا يمتلكه ـ العقل ـ بنفسه (دولاكامبان: تاريخ العبودية). نظرة الاسترقاق والدونية للشعوب الأخري هذه ظلت ثابتة عبر الحقب والقرون وحتي اليوم في مؤسسة الدولة في الغرب ولا تزال تمثل لحمتها وسداها.

*ورغم قدم هذه المفاهيم من فترات ما قبل ميلاد السيد المسيح عليه السلام إلا أنها ما تزال تشكل النظرة الغربية للأجناس والقوميات الأخرى. سيحدث لها تطور وتجذير كبير عندما تتولي الكنيسة الكاثلوكية الامر بدورها في القرن الثالث عشر.

*كانت أثينا تهاجم البلدان من حولها على شواطيء المتوسط وتسترق من تهزمهم ليرسفوا في أغلال الاسترقاق هم واحفادهم. مثل ذلك فعلت الحضارة الرومانية ـ خاصة فترة (الجمهورية) ـ بضراوة كبيرة جدا في الحروب واستجلبت الرقيق من مقدونيا وقرطاج وشواطئ البحر المتوسط الأخرى وسائر البلدان التي استعمرتها، حتى بلغ عدد المسترقين في روما حسب المصادر التاريخية أكثر من مليون. كان كل ذلك قبل بعثة السيد المسيح عليه السلام.

*وعلى كل استمرت أفكار أرسطو هي المهيمنة في النظرة للآخرين كمخزون للعبيد والموارد يتم استرقاقهم متى ما تمت السيطرة عليهم بالغزوات. وبالرغم من ان الذين تم استرقاقهم كانوا في غالبهم العام احرارا في حياتهم و شاء سوء حظهم الوقوع في الأسر، إلا ان أرسطو تعمد تجاهل هذه الحقيقة واعتبرهم ارقاء بالميلاد وانهم يحملون جينات العبودية

 

نواصل