
لآلئ بأقلامهم (24) (لاعب الشطرنج ) للكاتب النمساوي ستيفان زفايغ (غ)
صمت الكلام
فائزة إدريس
*استمر هذا الوضع الذي لا يسعني وصفه لمدة أربعة أشهر. ما أسهل كتابتها أربعة أشهر، إنها مجرد بضعة أحرف وما أسهل نطقها :أربعة أشهر، إنها مقاطع قليلة، لا تستغرق أكثر من ربع ثانية : أربعة أشهر ! ولكن لا أحد بإمكانه أن يصف أو يقدر أو يوضح الآخر أو حتى لنفسه كيف للزمن أن يطول في الفراغين المكاني والزماني، ولا يمكن أن يشرح كيف أنه يدمر الإنسان ويفترسه، هذا اللا شيء، اللا شيء، اللا شيء المحيط بك دائماً أبداً مع المنضدة والفراش والحوض وورق الحائط وهذا الصمت المطبق، والحارس الذي يضع الطعام دون النظر إليك، وهذه الأفكار المتكررة الدائرة في الفراغ حول الشيء نفسه، حتى يجن جنون الإنسان.
*هالني ظهور بعض العلامات الطفيفة بأن عقلي أصابه خلل ما. كنت في بداية الاستجوابات محتفظاً بصفاء الذهن، أجيب إجابات هادئة ومتأنية، وكنت لا أزال قادراً على التفكير في اتجاهين؛ ما يجب أن يقال وما لا يجب أن يقال. أما الآن فقد وصل بي الحال أن أصبحت أستصعب أقصر الجمل، فلا أتحدث دون أن أتلعثم، وكنت عند الإدلاء بأقوالي أحملق كأنني تحت تأثير تنويم مغناطيسي على الريشة، وهي تجري على الورق، كأنما أردت أن أركض وراء كلماتي التي تُسجل. شعرت أن قوتي تضعف وتقترب باقتراب اللحظة التي أدلي بها بكل شيء أعرفه، وربما أكثر من ذلك؛ لأنقذ نفسي، لأنجو من الفراغ الخانق : سوف أضحي باثني عشر إنساناً، وأفشي أسرارهم؛ فقط من أجل برهة من الراحة أتنفس فيها.
*وذات مساء كادت الواقعة أن تقع : دخل الحارس صدفة
في لحظة من هذه اللحظات الخانقة ليقدم لي الطعام،
فإذا بي أصرخ فجأة: (خذني إلى المحققين، سأفصح عن كل شيء، أريد أن أدلي بشهادتي، سأقول أين الأوراق واين الأموال، سأقول كل شيء، كل شيء) . من حسن الحظ أنه لم يسمعني، وربما تعمد ألا يسمعني.
*وأنا في هذه الحالة البائسة حدث أمر غير متوقع، قد يكون فيه نجاتي، على الأقل لمدة ما. كنا في أواخر أيام شهر يوليو الغائمة الممطرة. أتذكر بدقة هذه التفاصيل؛ لأن المطر كان يدق على زجاج النوافذ في الممر وأنا أُقاد إلى مكان التحقيق. كان علي أن أنتظر في غرفة رئيس التحقيق. في كل مرة كان علي أن أنتظر، فالانتظار أيضاً من الأساليب الممنهجة. أول صعق للأعصاب يأتي عند النداء والاصطحاب المفاجئ من الزنزانة في عز الليل، ثم بعدما يستعد الشخص للاستجواب ويُهيئ ذهنه وإرادته للمقاومة، يعودون ليبقوه منتظرا لمدة ساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات قبل الاستجواب عمداً وبلا جدوى حتى ينهك الجسم وتنكسر الروح.
نهاية المداد:
التعليم ليس تعلم الحقائق، إنّما هو تدريب العقل على التفكير
(ألبرت أينشتاين)