متناثرات إبداعية

قصة : نداء الموج
إخلاص فرنسيس / لبنانية مقيمة في أمريكا
نادتني موجةٌ، التفتّ فرأيتها تلوّح لي مبتسمة، فركتُ عينيّ، علّني أحلم، لأصحو من هذه التهيّؤات، لكن كنت هناك على الشاطئ بكامل وعيي، لم أكن كما في عادتي وفي أسفاري، البحر هو صديقي الصدوق، أزوره كلما سنحت لي الفرصة، بل أخترع الفرص، لأنفرد به.
هذا المساء الخريفيّ كانت الشمس تتأهّب للنوم خلف الجبل المحاذي للشاطئ، تبدو أقلّ حدّة، وكأنّ الصيف قد أرهقها، وقد أرادت أن تأخذ قيلولة بعيدًا عن صخب الناس وصراخ النورس وانعكاسها على صفحات الموج. على البحر هناك من يغوص في الماء الملح محاولًا أن يقتنص آخر خيوط دفء قبل أن يطرق الخريف، والشتاء الطويل على الأبواب، وهناك من يستلقي على الرمل مسافرًا بين الواقع والخيال.
مضيت في طريقي أتأمّل الطير والبشر، كم تكون السماء قريبة على شاطئ البحر، وكم نكون أقرب إلى السراب قرب البحر، وكم نكون دون رتوش ودون ألوان أمام البحر، البحر بما يحمل من حكايات الغيب وقصص البحارة هو الذي أشعر بنفسي أمامه بأنّي أحلم، ربما أحلم وأنا أقف هناك، لكنّي أراه لسان كلّ البعيدين والقريبين.
انتظرت كي أعرف ماذا تريد الموجة منّي. كانت تسير عتية إلى أن صفعها الشاطئ برمله القاسي محدثًا ضجيجًا وصخبًا مؤلمًا.
انتفضت وأنا أرى موجتي تنحسر إلى الخلف مبعثرة رذاذًا يملأ المكان في وجع وألم وحيرة، لكنّها كانت أعند من الرمل والشاطئ، أعادت الكرة، لكن هذه المرة كانت أكثر حنكة وحكمة، همست لي، وابتسمت من بعيد، وراحت تتدحرج برقّة نحو الشاطئ، وخيوط الشمس الخريفية، وأشعّتها الذهبية تمتطي ظهرها في خجل، والموجة تتدحرج في حنوّ ورقّة.
لم تصرخ، ولم ترفع يدها، بل كانت في سكينة تمتدّ في أشكال دائريّة نحوي.
لم أبتعد، ولم أتحرّك، بل كنت مشدودة لهذا السحر، والسرّ الغريب. سمعتها تقول: هل تفكّرين بغيري؟
لا..
لا، ولماذا الحزن في عينيك؟
حوّلت وجهي نحو الطرف الآخر
إذن أنا محقّ
قال الصوت الآتي من الموج:
ماذا أجبت؟
لا شيء، صورتي كانت وحدها تجعلك تبتسمين
أنا أبتسم، وابتسمت ابتسامة صفراوية
أردت أن أظهر بمظهر الشّجاعة لا الضحيّة.
عاد الصوت مرة أخرى، هذا الدمع لن يجفّ، غابت الشمس، والصقيع بدا، وأنا أعرفك شامخة مثل ثروة، ومثل شجرة الأرز.
لكنك تفكّرين ليس بي
بل كلّ تفكيري أنت، أنت تجلب الفرح لقلبي وروحي، والدمع إلى مقلتي
اليوم لا وجود لي في حياتك.
التفتّ حولي لأرى مصدر الصوت، لعلّه هنا، وأنا لا أدري.
لم أرَ سوى طيور النورس تتحرّش بباقي أكياس الطعام الذي خلّفه المصطافون على الشاطئ.
عاد الموج يتسلّل إلى أن لامس قدميّ، وتسلّل بين الأصابع في عناق هادئ، فسرتْ رعشة في جسدي، أيقظتني من كبوتي، وهناك أمامي يقف في بدلته العسكرية، نقش اسمي على صدره. مدّ يده نحوي، ابتسمت، ونهضت من مقعدي، وأعطيته يدي، وسرت معه.
لم يتكلّم، ولم أتكلّم، لم أساله: لماذا اختفى طيلة هذه السنين؟
أعطيته الدفتر والقلم.
كنتُ أريد أن أكتب قصّتي، لكنّها انتهت قبل أن تبدأ.
/////////
أربع قصص قصيرة جداً :
بين جفاف وغفلة يتولد نبض بصمت
بقلم : حسين بن قرين درمشاكي
كاتب وقاص ليبي
١ / نبض
في ريعان الصبا النديّ، كانت أمي مَلاذيَ الأَفْيَأ. ما زلت أستعيد وَجِيبَ همسها الرَّقِيق بينما تتشبث أناملي الغَضَّة بأذيال ردائها: “يا بُنيّ، لستُ المُنْتَهَى، بل مَعْبَرٌ مُلِحٌّ”.
تَمَلَّكَنِي وَجْدٌ وأنا أُطِيلُ النَّظَرَ في مَلاحِنِها المَلائِكِيَّة. اضمَحَلَّ وَهَجُ شَغَافِ قَلْبِي أمام ابتسامتها الشَّاحِبَة. لكن كَفَّها الحَنُونَة، كغُصْنِ زَيْتُونٍ وَادِعٍ، رَبَّتَتْ على كَتِفِي، وعَيْنَاهَا تَفِيضانِ بِرِقَّةٍ أَغْزَر من كُلِّ مَكَانٍ أَعْرِفُهُ، وَهَمَسَتْ بِدِفْءٍ يَسْلُبُ الصَّقِيعَ: “هُنَا مَوْطِنُكَ مَا دُمْتُ أَتَنَفَّسُ”.
آنَئِذٍ، تَأَصَّلَ في سُوَيْدَاءِ فُؤَادِي جَوْهَرُ مَعْنَى الوَطَن؛ لَيْسَ تُرَابًا، بَلْ دَفْءُ نَبْضِهَا المُتَجَذِّر. كانت أُمِّي، وستَظَلُّ وَطَنِي الأَزَلِيَّ.
٢ / صمت
نجمان: “نور الدين” و “بهاء”. صداقةُ إجلالٍ وتفاعلٍ. ذاتَ مساءٍ، منشورٌ باهتٌ لبهاء، كلماتُهُ مُتَهَدِّجةٌ، استرعى عجبَ نورِ الدينِ. عبثًا علَّقَ، حروفٌ مُجمدةٌ. نكزةٌ وَجِلةٌ، إشعارٌ: “آخرُ تجلٍّ: حولٌ”.
أصابعُ مُتصلِّبةٌ. حولٌ؟ المنشوراتُ صدىً لغائبٍ. إيماءاتُ ودٍّ على ضريحٍ. نكزاتٌ لإيقاظِ طيفٍ. كلماتٌ نضيرةٌ شواهدُ، صداقةٌ سرابٌ… وخزةٌ كشفتِ المُرَّ.
٣/ غفلة
استحرّب أمراء الحرب كوحوش كاسرة ضرية صولجان السلطة المتوهج، يلتهمونه. هتافاتهم صدى أجوف في لجّة الأطماع. إيمانهم خيالٌ زائفٌ. يستنزفون جوهر الحاضر بنهمٍ فتاك، عميانًا عن دودة سمّ زعفت تسللت تنخر لبّ كيانهم المتهالك.
ولما استفاقوا من سبات الغواية، لم يبقَ سوى “بوابة العنقاء” رميمًا تذرّيه عواصف الفناء. صولجان شهواتهم عصًا هشّة تحطمت أمام طوفان العدم الزاحف. الصمت ورث صخبهم العابر. الفراغ ابتلع أضغاث أحلامهم.
٤/جفاف
في أتون الذاكرة الخانق، يستبدُّ غيابُها بأنفاسِهِ كوصمةٍ موجعةٍ. فجوةٌ سحيقةٌ تنهشُ جلَدَ صبرِهِ كدودةٍ مُستميتةٍ في ثمرةٍ نضِرةٍ. وخلفَ هذا الهاجسِ المُضني، يستعرُ في قلبِهِ القاحلِ ضرامُ رغبةٍ أعمقَ غورًا من الرملِ. إنها لِمسةِ كفٍّ حنونةٍ توارَتْ في دهاليزِ القدرِ، تاركةً روحهُ كطيفٍ خادعٍ وعهودًا باهتةً كأفولِ نجومٍ في سماءٍ مُقتِرةٍ لا تعرفُ المطرَ.
في غيهبِ ليلةِ يأسٍ مُتجذِّرٍ كعروقِ شجرةِ زيتونٍ عَتيقةٍ تَشبَّثتْ بجدبِ الأرضِ، يقتحمُ طيفُها الوَضِيءُ عزلتَهُ كبارقةِ أملٍ كاذبةٍ. يتسللُ من ثُقبٍ في جدارٍ مُدْلَهِمٍّ، كطيفِ سعادةٍ اندثرتْ ولنْ تعودَ. يمدُّ كأسًا فضِّيَّةً بَارِدَةً، وعدًا زائفًا بالارتواءِ بعد طولِ تَوَقُّدٍ وشوقٍ دفينٍ. لكنَّ النشوةَ تضمحلُّ كلمحِ البصرِ، تاركةً مرارةً أشدَّ فتكًا من العطش نفسهِ، كطعمِ العَلقمِ بعد حلاوةٍ مُضلِّلةٍ. حينَ رفعَ رأسَهُ المُثْقَلَ بالأوهامِ، لم يجدُ سوى الفراغِ المُطبقِ الذي أورثَتْهُ. والكأسُ خاويةً في يدِهِ المرتجفةِ، شاهِدًا أخرسَ على عمقِ قحطِ روحِهِ وعجزِهِ عن تجاوزِ بقايا حلمٍ كان يومًا روضًا أَنِيقًا.
/////////
لعبة التغيير
محمد رضا / سوريا
بعد أن سقطت الأقنعة…
غار وجه الحقيقة…
خارت قدماها…
تمسكت بحبال اليأس…
لملمت بعضها…
ومسحت غبار مرآتها…
باتت التجاعيد…
علامة فارقة…
في وجه الزمن…
أبحث بين أزقة العيون…
وأورقة المآقي…
في بئر الظلام…
سكبت آخر دمعة…
وهل لوجوه الأمل ملامح…؟
الطرقات مقفرة…
إلا من عويل الريح…
وهل لنباح الكلاب صدى…؟
اللون الأسود…
عنوان الأزقة…
نظرات تراقب الآتي من بعيد…
متكئة على وجعها…
بقدميها تبعثر مخلفات الليل…
قوارير نصفها ألم…
ونصفها الآخر زبد القهر…
ابتسامة باهتة…
لم تستر أنياباً يعلوها الجوع…
حملت خيوط الفجر…
تساؤلات ليل طويل…
وأخبار ملاحة…
ورماداً من احتراق خصلة شمس…
رمت معطفها عند أول جائع…
وركلت بقدميها خيبات مسافر…
من شرفة خيّم عليها الصمت…
مدت الآهات أظافرها…
تخدش حياء الظلام…
وتوقظ أنوثة معلبة…
ابتاعت كفنها قبل أن تولد…
طال انتظار الموت.
/////////
سيمفونية الوفاء
ريم حاوي / مصر
شاعرة وناقدة ماجستير بلاغة ونقد
الحبُ نجمٌ يهبط في أعماقي
يرسم حلقة ضوءٍ على مرآة الزمن
وأنتَ سراجٌ يضيء مدنَ قلبي
في صباحٍ يرقص على أنغام الفجر الأولى
الوفاءُ نهرٌ من ذهبٍ سائل
يجري عبر جبال شوقي الخفية
كأنه عهدٌ خطته الرياحُ السماوية
ينحت في الصخر صدى وعودنا الأبدية
أراكَ في عيني كغيمةٍ متعبة
كقوس قزحٍ يعانق دموعي الصامتة
وكل نبضٍ يحمل اسمكَ سرًا
يتنفس فيه الزمن أنفاسَ وداعتكَ
الحبُ لوحةٌ تتألق في ظلالي
يداعبها نسيمٌ من أحلامكَ البكر
والوفاءُ جسرٌ من نورٍ معلق
يربط بين بحرين: أمسي وغدكَ المشرق
أحبكَ كما يعانق الفضاءُ النجوم
في صمتٍ يحمل أسرار الوجود والوفاء
/////////
الشّرق والغرب :
في كتاب “عصفور من الشّرق” أنموذجا
أسماء المصفار
كاتبة من تونس
ينحى وصف الأثر الأدبيّ إلى تحديد معاني عناصر الأدبيّة فيه، بينما يسعى النّقد إلى منح تلك العناصر تأويلا وتحليلا بشكل حياديّ، فتحدّدُ طبيعة النّقد في هذا الموضع كونَه نشاط فكريّ يرصد عناصر تشكُّل العمل الأدبيّ وما يحتضنه من قيَم فيحكُم عليه ويُساهم في توجيهه. وتقترن وظيفة النّقد بتقويم العمل الأدبيّ من النّاحية الفنّيّة واستجلاء قيمته الموضوعيّة والتّعبيريّة والشُّعوريّة وتعيين مكانه وقياس درجة تأثُّره بالأوضاع التي سيقَ فيها تدوين العمل الأدبيّ من أوضاع اجتماعيّة واقتصادية وسياسيّة ونفسيّة… ذلك ما جعل جُلّ الباحثين في المجال الأدبيّ يُقرُّون بحقيقة مفادُها أنّ الأثَر الأدبيَّ هو حدَث تغلبُ عليه سمَة الذّاتيّة حينا وسمَة الحياديّة والموضوعيّة حينا آخر لأنّه إنتاج الإنسان التّاريخيّ والنّفسيّ والاجتماعيّ. وإنّ ما دفعَنا إلى ذكر سمَات النّقد باعتباره نشاطا فكريّا يتناول الأعمال الأدبيّة بالدّرس لفكّ شفراتها واستجلاء مواقف أصحابها تقترن بكُلّ ما هو إنسانيّ، هُو ما لقيناه من مُيولات جُلّ الكُتّاب (الأُدباء) إلى إبراز مواقفهم من الآخر المُختلف عنهم في أعمالهم الأدبيّة استنادا إلى ما ينسبُونه إلى شخصيّاتهم الروائيّة، لتغدُوَ أعمالهم الروائيّة أعمالا نقديّة تبسط مواقف وتطرح أفكارا وذلك باحتكامهم إلى الجانب الحياديّ حينا والجانب الذّاتيّ حينا آخر. وسنعمَدُ في هذا الموضع من الدّراسة إلى ذكر أهمّ الكُتّاب الذين ألبَسُوا شخصيّاتهم الروائيّة بسمَة الحياديّة في أعمالهم الأدبيّة والذين نذكُر من بينهم توفيق الحكيم الذي عمَد إلى إبراز صُورة الأنا والآخر وضبط موقفه من الآخر (عبر ما عبَّرت عنه شخصيّاته الروائيّة) بشكل حياديّ في نصّه الموسوم بـ:” عصفور من الشّرق” الذي يُمثّل بأبعاده الفنّيّة والمضمونيّة خطابا إيديولوجيّا حياديّا بما يتضمّنه من ملامح معرفيّة فكرية ودلاليّة. ولعلّ أهمّ ثُنائيّة حرصَ توفيق الحكيم على طرحها في نصّه والتي انبنت على ما هُو حياديّ وموضوعيّ، هي ثُنائيّة الأنا والآخر أو الشّرق والغرب التي مثّلت أهمّ مَقولة في مشروعه الأدبيّ. فمفهوم الأنا في كتاب “عصفور من الشّرق” لم يُشكّل تمجيدا للذّات ورفضا للآخر بشكل كُلّيّ. ليكُونَ مُحصَّلنا من خلال ما عمَد إليه توفيق الحكيم في كتابه بناء على ما أبرَزه من مواقف من الغرب ومن الشّرق على لسان شخصيّاته الروائيّة، هُو اعتماده على الحيادية عند حديثه عن الحضارتَين العربيّة والغربيّة وعدم تمييزه بين كلتَيهما، إذ بنا نراه لم يكُن مُنحازا بشكل كُليّ إلى ذكر سلبيّات الحضارة الغربيّة دون أن يذكُر بعض سلبيّات الحضارة العربيّة. فقد ضجّ الحديث عن الآخر (الغربيّ) في الكتاب بشَكل حياديّ، باعتبار أنّ شخصيّة مُحسن قد حرصَت على ذكر ثورة 1919 بمصر والتي عمَد فيها الجنود البريطانيّون المُسلَّحون إلى الهجوم بالمدافع لاستعمار البلاد. وقد بدا موقفه من الحضارة الغربيّة في ما هُو جليّ في قوله التّالي:” أدركَ مُحسن معنى الحضارة الغربيّة الكُبرى التي بسَطت جناحَيها على العالم”. (الرواية. ص 19). وكما أنّ شخصيّة “إيفان” في “عصفور من الشّرق” العامل الرّوسيّ الذي جمَعته علاقة صداقة مع مُحسن (الشّخصيّة البطلة في الرواية) عمَدت إلى التّعبير عن واقع الحضارة الأوروبيّة التي غدَت في نظره تفرض نمَطا واحدا من الحياة على الذّوات الإنسانيّة. فإنّ توفيق الحكيم المُؤلّف قد عمل على إبراز رأيه في النّظام الرّأسمالي العربي كذلك من خلال ما ساقَه من مواقف قُدّمت على لسان شخصيّة مُحسن. وكما أنّ النّظام الرّأسمالي الأوروبيّ في نظَر الشّخصيّة الروائيّة (إيفان) قد قسَّم المُجتمعات الأوروبيّة إلى جُزأين: جُزء هاجسُه مُقترن بجمع الأموال، وجُزء مُنحصر في كونه مُجرَّد آلات لا غير. فقد لقيَ (النّظام الرّأسمالي) العربيّ أيضا نقدا مُماثلا من قبَل شخصيّة إيفان في النّص، باعتبار أنّ الشّرق في نظَره أضحى لا هُو شرق ولا هُو غرب، وإنّما هُو كما ورَد في الشّاهد النّصّيّ التّالي:” تلبَّسَ زيّ الغرب، على غير نظام ولا ترتيب ولا فهم ولا إدراك”. (الرواية. ص 191). لتظهرَ لنا في هذه الحال حياديّة توفيق الحكيم وموضوعيّته وذلك بعدَم انسياقه إلى إبراز صُورة مُثلى للشَّرق وصُورة للغرب قائمة على السّلبيّة، وإنّما قد عمَد إلى عدم الانحياز إلى هذه دون تلك وهنا يظهر الجانب الموضوعيّ في عمله.
/////////
قصة / رائحة السولارِ
عماد أبو زيد / مارسيليا
ساعة أو أكثر تَغيبتُها عن المنزل – عقب خروجي من المدرسة، وأنا في الصف الخامس الابتدائي – قضيتـها مع أصحابي مُتسكعًا في ضواحي المدينـة، وأطرافها. كان بينها سوق الأحد، عزبة الشقنقيري، محلج القطن، ومزلقان محطة السكة الحديد. وعدتُ إلى البيت، وأنا أفكر في سبب مقنع لتأخري أسوقه على لساني؛ كي لا أتعرض للتوبيخ.
بعد أن تخرجتُ في الجامعة، وتنقلي بين مكانٍ وآخر للعمل، كان حتما مقضيًا أن أمشي يوميًا مسافة طويلة، والولوج في اتجاه مزلقان محطة السكة الحديد؛ للذهاب إلى عملي الجديد. لم تكن أمامي فرصة عمل أخرى في هذه المدينة؛ فاستمسكتُ بها، وهي كرهٌ لي. لم يعد يعني لي فيما بعد مجاوزة المزلقان بأية حال من الأحوال، أني قطعتُ شوطـًا كبيرًا، بعيدًا عن مداري، كما كان شعوري السالف. أداوم المضي إلى الشغل دون انقطاع، مهما بلغ بي التعب مبلغهُ – ليس حُبًا فيه – وقد تمنيتُ أن يصير يوم العطلة يوم عمل؛ كيما يتسنى لي أن ألتقي حبيبتي سلوى.
كانت هي تُقبِّح طريق المزلقان،ولا تأمن المشي فيه، هكذا حدثتني. بعد عام من العمل معها، ولقائي بها يوميًا، تصير قدمايَ عصيتينِ على تخطي شريط السكة الحديد، فَكما تنفذ إلى أنفي رائحـة الســولار المتسرب مـن خزانات وقود القطارات، تنفذ إليَّ رائحتها. كانت الساعة التاسعة مساءً وقت أن صادفتْ خُطايَ خُطاها في سكة المزلقان. أذكر أنها كانت ليلة ممطرة، وأقدام قليلة تخطو مُتوخية الحذر فيما تبقى لها من ضوء كشافات العربات؛ فكثيرون عند دخول الليل يؤثرون صعود الكوبري. مشيتها، عطرها، إِزارها الشتويُّ، نبهني اليها. تحدثنا قليلاً حتى سحبت يدها من يدي، وهي تقول:
– بابا ينتظرني في معرض السجاد.
كان معرض السجاد يقع في برج الإسراء خلف المزلقان، وكان هاشم يقطن أعلاه، ولم أكن أدري بعد أنها اعتادت المجيء إليه.
/////////
أسئلة الحب
صالح سعيد الهنيدي / السعودية
رحــيقُ أيــامِنا بــالحبِّ نجمعُه
وشَــهدُه مــن لذيذِ العمرِ ذقناهُ
لــلحبِّ ألفُ سؤالٍ لا جوابَ لها
ولــلهدايا حــديثٌ مــا نَــطقناهُ
الحبُّ أثمنُ شيءٍ في دواخِلنا
حُزناهُ من فيءِ نَجوانا وسُقناهُ
نخافُ من نظرةِ الحسّادِ تلمَحُه
كــأنّــنا مـــن أمــانِينا سَــرقناهُ
وكُلّما انطفأتْ أشجانُنا وخَبتْ
قُــمنا نُــلملمُ مــنهُ مــا حَرقناهُ
/////////
/////////
قصة / الجثامة
الدكتور قريرة زرقون / ليبيا
كاتب وباحث وناقد ليبي
مددت جسدي على السرير ، وعدلت من وسادتي ، وتناولت بقدمي غطائي ، ورويت عطشي بجغيمة من الماء ، الذي تسلل إلى جسمي ، فشقه كما يشق النيزك قلب السماء .
ادخلني تفكيري في بداية الأمر إلى لحظات من الشقاء والبؤس ، ثم قادني إلى الأحزان والآلام .
تفكرت أمي حين حضرها الموت ، وتصورت كيف قاومته ، وقد صالت معه وجالت ، ولكنها في نهاية المطاف أسلمت الروح إلى ذلك القاهر .
تذكرت أبي وهو يئن تحت هجمات ذلك الفيروس الفاتك ، الذي استفرد بأعضاء جسده قطعة قطعة ، وبدأ يدمرها الواحدة تلو الأخرى .
تذكرت أخي وصديقي ورفيقي الذي باغته الموت فجأة ، ولم يمهله لحظة ، حتى أنه استطاع أن يستنشق الهواء ، وعجز عن استخراجه ، وكأني أرى جسده يتقطع وهو ينظر إليه ، تلك هي صورة حادث السير الذي ألم به .
كما تذكرت عشرات الأصدقاء والأقرباء الذين قضوا .
ثم تذكرت أني منعته .
وعدلت من منغصاته .
حولت وجهته إلى المسرات ، والحب والغراميات ، وكذا المغامرات ، وكان يجاملني هنيهة ، ثم يجنح إلى المكدرات .
يا له من فكر معاند .
لست أدري كم من الزمن استغرق هذا الصراع .
ولكن ما تذكرته كان الفصل الأول من السهرة الحافلة بصنوف الألم .
تلك السهرة التي قادتني إلى الفصل الثاني من الليلة الطنباء ، التي لا فرق فيها بين الموت والموت ، وبين العذاب والشقاء .
كلما أذكره أني أسلمت رأسي على الوسادة ، ونمت .
ودخلت في رحلة الموت الصغرى .
وما هي إلا لحظات حتى وجدت نفسي في خضم معركة حامية الوطيس ، كنت فارسها بامتياز ، استخدمت الرمح فقتلت عشرة ، وتناولت السيف فرزيت مئة ، ومسكت السكين فطعنت مئات ، وشددت الرشاش فقضيت على الجموع ، وركبت الذبابة فدمرت ما لا يمكن عده وحسابه .
ثم أعتليت الطيارة ، وقنبلت القرى في غارة تلحقها غارة .
فرأيت من علو ، الأطفال يموتون ، واليتامى والأيامى ، ورأيت الدم غدران ، والحقد يتبجح بالأمان ، ورأيت قهر الإنسان للإنسان ، ورأيت الشفقة تهرب من المكان ، ورأيت أني ملك الزمان ، كما رأيت أني أكبر شيطان .
جلست للراحة ، وألتهمت النار في الصباح ، وتغذيت بالحقد في الظهيرة ، وتعشيت الظلم والمكابرة والغيرة .
كل هذا حدث وأنا استمتع ، كما يستمتع هؤلاء الذين يقتلون النفس الذي حرم الله ، ويعذبون الخلق على الهوية ، ويأكلون مال الرعية ، ويخطفون الطفل ، والطفلة البريئة .
كنت مرتاحا ، وأتلذذ بعذابات الآخرين ، والشيوخ المساكين ، وما هم بمساكين ولكن كان هذا هو حظهم اللعين .
هي نشوة الانتصار ، أيها السادة ، وحب الموت والدمار ، ومتعة الرعديد قبل الانهيار .
وفي هذا الخضم ، تنبهت إلى أن هناك جنة ونار ، فصعدت إلى السماء ، وزرت جهنم الحمراء ، وألتقيت بكل الأحبة والأمراء .
وجدتهم يفرشون لي المكان ، ويفسحون لي الطريق .
استاذنتهم بالعودة .
وعدت …
عدت إلى ملكي ومملكتي ، فوجدتها خرابا ، ينعق فيها الغراب ، وأصبحت سرابا .
تأملت آثار الدماء التي سفكتها ، والرقاب التي قطعتها ، والحقد الذي دفنته ، والظلم الذي مكنته ، ثم تأملت وتأملت …
جلست في جانب القصر المهشم .
كنت متباهيا بالتدمير ، وقتل الصغير والكبير ، ومتطلعا إلى جهنم وبئس المصير .
لم أفكر في الجنة ، ولم أفكر في الرحمة ، ولم أفكر حتى في الاعتذار .
وكنت أقنع نفسي بأن ربي خلقني للنار ، فلماذا يا ترى خلق الله النار ؟
إنها لمثلي من الأشرار .
كان الوقت عشية ، وإذ بالأشرار يحاصرونني من كل مكان ، وغاب عني المدد والأعوان ، وأصبحت أحقر إنسان ، وقبض علي في ذات المكان ، وقالوا : كما تدين تدان .
أهانوني ، عذبوني ، لعنوني ، اقتلعوا جفوني ، ثم صلبوني ، وإلى القبر ساقوني .
درجوني في اللحد ، ثم ذهبوا …
كنت مازلت أتنفس ، فجمعت ما أملك من قوة ، وأزحت التراب من على جسدي المنهك .
أفقت من النوم ، فوجدت تنفسي بين الشهيق والزفير يتتابع ، وخفقات القلب تدق كما يدق الطبل في أشد الأتراح ، والحزن الذي يصاحبه النواح .
كنت مشككا في حياتي ، والأمل في نجاتي ، فناديت قمر الزمان ، الداعشية كما سميتها قبل هذا الأوان .
فحمدت الله ، واستغفرت كثيرا .
/////////
قصة قصيرة جداً
( مبرأة نائمة )
حينما سُجن في داره من قبل قوة داخلية تسمى وزارة ، أخذ يبري قلمه الرصاص بين صخرتين ؛إحداهما أصبحت تراباً ، استغرب كثيراً لم القلم مازال منكسراً ولم يؤدي مهمته .؟!
سأل زوجته عن السبب ؛ قالت له : مازال المحراب في حالة ترميم ..!
حسن علي البطران
/////////
ديوان قاموس الصمت ..
ينبض حروفاً متمردة ترقص بجانب الجدار
عبلة البحري / مصر
( ١ )
هذا اليوم وليد
رويت صدري فأزهر قلبا
تلصصت على صمتك العاري
وقلبك المارق
وعقلك المشدود للترحال
تساءلت
هل كانت فرحة ترتدي ثوب حداد
أم أهديت قلبي خنجرا
انتظر …. لاتنزع
فإنه أوجع
وصمتي أعتقل إنكساري
ولن يبوح بآهات .
( ٢ )
عانقت نفسي خوفا
من
وحدة لم أُحسِن صداقتها
وفراغاً أصبح ضيقاً
طريقي مبتور يقضم
آهات الوداع في صدري
فألملمه مخافة الرجوع
ثمة آهه تتلظى بها الأضلُع فياليت يملأ النسيان لوعي
الآن لا تسل
فالإجابة أصبحت اسئلة.
( ٣ )
جلس يسدل أستارا على اسئلة
اسئلة لا إجابات لها
واطمئنان لتوقع ماهو متوقع
ومع اتساع الأفكار الملقاة
على عود ثقاب مشتعل
يتبادل الخوف والأمن الأمكنة
وينتصر المهزوم
مع ثبات أثر هزيمته المؤلمة
( ٤ )
نظر من ثقب العمر
فلم يجد
إلا فراغاً بارداً
ولم يستطيع أن يقبض على
الحقيقة الملقاة على أطراف
الحياة التي ابداً لم تعبأ به
ليس مضطرا للتخفي
ولكنه يسير في ركابه
بوهن قلة الحيلة وستر العتمة
منتظرا الوصول لنور اليقين
متنازل عن جسد
مسطور عليه كل حياته .
/////////
قصيدة : ريحانة جباري
دعاء النمر / مصر
كانت بتتوارى..
من عيون الخلق..
بعد امّا طالها الديب بأنيابه
قالوا إن هي إللي هامت بيه!
ولأنه ديب..
كان عنده أسبابه!
من سوْأته..
وقف الغراب يسأل..
مهما حفرت..
يداري فعلك إيه؟!
الأرض دى مش بور؛
علشان تضللها،
ريحة العفن فـ إيديك،
إزاي هتنكرها؟!
الأرض دى خصبة..
تلعن شهادة الزور
عضو إتحاد كتاب مصر