التقوقع داخل المجتمعات الأوروبية

لمياء موسى

*أقف كثيرًا متأملة من أين أبدأ الحديث عن هذا الموضوع الشائك، فلست أكتب من موقع المتفرج البعيد، بل من قلب التجربة، من عين من عايشت الاغتراب، لا اغتراب الأرض فحسب، بل اغتراب المفاهيم والانتماء أيضًا. فأنا عربية، نشأت وتربيت في مجتمع عربي إسلامي، قضيت فيه جلّ سنوات عمري، قبل أن تحملني الحياة إلى إحدى الدول الأوروبية، حيث وجدت نفسي فجأة في عالمٍ مغايرٍ تمامًا لما عرفت.

*في سنواتي الأولى هناك، آثرت الصمت. راقبتُ، تأملت، وطرحت على نفسي أسئلة كانت كفيلة بأن تخلخل كثيرًا مما كنت أعدّه بديهيًا: كيف تُبنى الحضارات؟ كيف تنشأ مجتمعاتٌ يحكمها النظام لا الفوضى؟ ولماذا يسبقنا الآخرون بينما نظل نحن نحبو في أماكننا، نحاكي ظلالًا لا نبلغ جوهرًا؟.

*كثيرًا ما قيل لنا إن وسائل الاتصال قد حوّلت العالم إلى قرية صغيرة، لكنني ما إن عبرت الحدود حتى أدركت أن الصورة التي كانت تصلنا عن الغرب صورة مبتورة، لا تنقل إلا ما يُراد لها أن تُظهر: مشاهد من أفلام ومسلسلات، أخبار سياسية سطحية، تحليلات اقتصادية، لكن الحياة اليومية، تلك التي تصنع روح المجتمعات، كانت مغيّبة تمامًا عن وعينا.

*لم نرَ من الغرب سوى مظهره، وبدل أن نسأل عن جوهره، اكتفينا بالحذر منه. نشأنا ونحن نُلقَّن أن المختلف خطر، وأن علينا أن نغلق الأبواب والنوافذ كي لا يتسلل إلينا “الفساد”، فصرنا نعيش في دوائر مغلقة داخل مجتمعات مفتوحة، لا نختلط إلا بأبناء جلدتنا، ونتحدث بلغتنا، ونأكل طعامنا، ونشرب من نفس النبع القديم حتى ونحن في أرضٍ غير أرضنا.

*نُقيم بين من لا نراهم، ولا نريد أن يرونا. نبني بيننا وبينهم جدرانًا من خوف وسوء فهم، ونسكن أحياءً نسجّلها بأسمائنا، ونعيد في غربتنا نسخ مجتمعنا الأصلي بكل تناقضاته وأمراضه، وكأننا نحمل معنا عبء ماضينا أينما حللنا.

*أذكر أنني في أحد الأيام كنت أقود سيارتي في حيٍّ نظيفٍ منظم، حيث يستحي المرء أن يُلقي بورقة صغيرة على الأرض، وإذا بي أفاجأ بكومة من النفايات موضوعة في غير موضعها، منظرٌ استفزّني، فأمعنت النظر لأعرف الموقع، فصُدمت أنني أمام مسجد كُتب عليه “لا إله إلا الله محمد رسول الله”. وقفت مذهولة. كيف يُمكن لمشهد كهذا أن يختزل ثقافتنا في أعين الآخرين؟! أي تناقض هذا بين قدسية الشعار وقبح الممارسة؟.

*ولم يكن ذلك المشهد الوحيد. مررت لاحقًا بسوق مكتظ، تعمه الفوضى، يغيب فيه النظام والذوق، وترتفع فيه الأصوات بلا مراعاة, أدركت حينها أن هذه البقعة يسكنها المهاجرون، ورجعت أسأل نفسي: أهذا ما نُظهره من حضارتنا؟ وهل يُلام الآخر إن خاف من ثقافة لا يرى منها إلا قبح السلوك؟.

*أيقنت حينها أن المجتمعات كلها متشابهة في تركيبتها، لكن ما يميز أمة عن أخرى هو حجم ما تملكه من ميزات مقارنة بعيوبها. وإن كنّا نخشى على إيماننا أن يُنتزع منّا وسط هذا الانفتاح، فربما الخوف الحقيقي أن نكتشف هشاشته، وأنه لم يعد كافيًا لأن يقودنا إلى الخير، ولا أن يمنحنا القوة للتماسك في وجه اختلاف الآخرين.

*من يمرّ أمام مسجد تظلله القمامة، لن يُفكر في سرقة إيمان أصحابه، بل سيتركه لهم، إذ بدا أمامه مُشوّهًا ومنفّرًا.

*أيها المغترب… أنت تعيش في مجتمع منظم، تحكمه قوانين عادلة، تُساوي بين الجميع، وتضع كل إنسان أمام مسؤولياته دون استثناء. لماذا لا تتساءل: كيف وُضع هذا النظام؟ لماذا يخاف الجميع من خرقه؟ لماذا يشعر المظلوم هناك أن حقه سيُرد له، لا محالة؟ لماذا لا يحرّكك الفضول لتفهم كيف تعمل هذه المنظومة؟ كيف يمكن لمجرد شكوى عن نفايات في الشارع أن تُعامل كبلاغ طارئ وتجد لها موقعًا إلكترونيًا ونظامًا دقيقًا وإجابات واضحة؟

*ومع كل ذلك، نحن لا نرى إلا الجانب المظلم في مجتمعاتهم. نقف عند قضايا الشذوذ والخمر والخنزير، ونحصر أحكامنا فيما يخالف عاداتنا، ونغفل كل ما من شأنه أن يرتقي بأوطاننا إن تعلمناه بصدق. نُكثر من الخوف، ونُكثر من الإدانة، كأنّما أخلاقنا على حافة الهاوية، وديننا لا يملك أن يصمد أمام نَسَمات الحضارة.

*الغريب في الأمر أننا نعيش في تلك المجتمعات ونأخذ منها الكثير، لكننا لا نمنحها شيئًا في المقابل. لا نغرس شجرة، ولا نفتح نافذة حوار، ولا نترك أثرًا يُشبه النور. كثيرٌ منا استفاد هناك بما لم تقدّمه له بلاده، ومع ذلك، يُصرّ أن يبقى غريبًا فيها… وغريبًا عن نفسه أيضًا.

*آن لنا أن نكسر القوقعة. أن نُنصت، نتأمل، نتعلم. أن نحمل قيمنا الجميلة إلى العالم دون أن نخاف عليها

الإيمان الحق لا يخشى النور، بل يشع في النور.

*ولعل أعظم ما نكسبه من الاغتراب، هو أن نعيد اكتشاف أنفسنا، ونفهم الآخر، لا لنذوب فيه، بل لنرقى بذاتنا

 ومن لم يذق مرّ التعلم ساعةً

تجرّع ذلّ الجهل طولَ حياتهِ

الإمام الشافعي.

*يا من اختارته الحياة ليكون شاهدًا على حضارة أخرى، لا تكن جدارًا يُغلِق، بل كن جسرًا يُوصِل. لا تخشَ أن تتعلم، فالعلم لا يبدّل هويتك، ولا يمحو جذورك. ازرع خيرًا حيث أقمت، وكن ضوءًا لا ظلًا

لكن تذكّر دائمًا: الأصل ليس الأرض… بل من يمشي عليها

*كاتبة مصرية مقيمة في لندن