آخر الأخبار

رواية قهوة بمذاق آخر (الحلقة الأولى)

تأليف عمر أحمد المصطفى حياتي..(دار آريثيريا للنشر والتوزيع – الخرطوم – السودان)

أشارت كاميرات المراقبة وسجلات مطار دبي الدولي أن المقيم آدي هوانشان، الصيني الجنسية، المتهم في قضية الشيك رقم 20047331 المحرر على بنك تاس (TAS) قد غادر الإمارات العربية المتحدة يوم السبت الموافق ١ أكتوبر ٢٠١٦ في تمام الساعة 17:45، على متن الخطوط الجوية الصينية إلى بكين
يوسف الشمري المحامي – دبي
نفيد سعادتكم بأن الشيك رقم 10764 المحرر على بنك البقعة التجاري بالخرطوم بقيمة 47 ألف دولار قد تم صرفه باسم تاج السر خلف الله الإمام، جواز رقم K 09821761. يوم السبت بتاريخ 1 اكتوبر 2016 بالعملة المحلية الساعة التاسعة والربع صباحا
قسم الشيكات – بنك البقعة التجاري
يذكر أحداث ذلك اليوم بمرارة، يوم تغيبت عزة عن العمل، بسبب مرض والدتها، ونابت عنها نوال، لا بارك الله فيها. أحس بضيق في صدره، وتسارعت نبضات قلبه، فصك أسنانه بعنف، وأخرج نفسا عميقا. وتساءل هل كان ذلك إهمال منه؟ أم سوء تقدير؟، أم أنه قدر سيء قد رماه في نوال؟ أيقن تماما أنه لولا غياب عزة، يوم التقي شيخ خالد لما حدث ما حدث. لام نفسه كثيرا لتوظيفه سكرتيرة ضعيفة القدرات دون إجراء معاينة لها، نزولا لرغبة صديق له وتوسطه لتعينها في شركته، تقديرا لظروف أهلها ووضعهم المادي الحرج. ويعزي تعيينها أحيانا لتزامنه مع الذكرى السنوية لوفاة خاله، ترحما على روحه. خاله الذي قدر يتمه في سن مبكرة، وظروف معيشته البائسة التي كنت تحيط به، فآواه وعلمه فنون التجارة، فآل على نفسه أن يقدم عمل خير باسمه في كل ذكرى سنوية لوفاته ما بقي على قيد الحياة. فعينها في مكتب سكرتارية شركته، الذي يعتبره واجهة الشركة لارتباط مهامه بعملاء الشركة. ويؤمن بلا أدني شك أن من تعين في وظيفة سكرتيرة لابد أن تكون ظريفة، لطيفة، لبقة، راق تعاملها وتحسن التواصل الكتابي واللفظي. وعلى الرغم من أن نوال فتاة صغيرة هيفاء في بداية عقدها الثالث ومتوسطة الجمال، إلا أنه يراها بدينة قصيرة، لها وجه طويل وعينان صغيرتان كعيني قط مذعور، وأنف غليظ مدبب، وشفتان رقيقتان تطبقهما بصعوبة لبروز أسنان فكها الأعلى، الأمر الذي يجعلها تغطي فمها بكفها عند الشروع في الضحك.
يذكر أنه كم كان متفائلا ذلك اليوم الخريفي المشؤوم، خرج في الساعة السابعة والنصف صباحا من شقته رقم 18 – مبنى 22 في مجمع النزهة بضاحية كافوري الراقية، المميزة تصاميم مبانيها، الواسعة طرقها، المتمتع سكانها بالثراء المادي، والمصنفون كطبقة مخملية راقية.
كان يوما مشرقا، سماؤه ملبدة بغيوم تنذر بزخات مطر، ربما بعد ساعات قليلة، تحلق في الجو أسراب طيور الرهو متجهة صوب الشمال، رياح باردة تهب من الغرب تحمل رائحة الدُعاش، لابد أن أمطارا أصابت ربوع سودري، شمالي كردفان، ووادي الرواكيب غرب أمدرمان. ذكرته هذه الأجواء رحلات الصيد مع زاهر عابدين وحامد الشريف في وادي الرواكيب وغابة الزرزور في جبال العرشكول.
كان أنيقا تفوح منه رائحة عطر أخاذ، يرتدي بدلته البنية الجديدة التي اشتراها من مول سولانا، المواجه لحديقة تشاويانغ ببكين، تنساب عربته المرسيدس الفارهة في شارع الجامعة بسلاسة فائقة، تسابق الريح متجهة لمكتبه، تلفت انتباه المارة، إذ ترسل أعينهم نظرات إعجاب شديدة، يصدح من مسجلها صوت مغن يدندن معه:
شُوف كم زمن ما شِلنا هم
ولا شِلْـتَ يا قلبــي العذابْ
ؤسَرَحْتَ في ليلَ الشُّجونْ
ما عرفتَ لي دربـك مـآب
أطفأ محرك سيارته في الموقف المخصص لها قبالة مكتبه داخل أسوار شركته التي افتتحها قبل عامين في شارع الجمهورية في قلب العاصمة السودانية الخرطوم. حيا موظف الاستقبال بابتسامة ولطف واتخذ سبيله لمكتبه في هدوء. جلس على كرسيه الوثير واتصل على عم حسن وطلب قهوة الصباح كعادته في بداية كل يوم عملي. أغلق مكتبه عليه، وبدأ يقلب دفتر يومياته، يراجع حسابات مبيعاته، أمد الشيكات والديون المستحقة، ويتابع حركة الصادر والوارد. يقوم بتلك المهام بنفسه، على الرغم من أن المدير المالي للشركة يعتبره أميز الموظفين لديه وأقدمهم، ومستشاره وذراعه الأيمن في إدارة الشركة، ولولا تسويفه في بعض الأحيان لعينه نائبا له.
لفت انتباهه باقة ورد كبيرة الحجم اختيرت ألوان ورودها وأغصانها بعناية فائقة موضوعة على طاولة الاجتماعات، على الجانب الأيسر من مكتبه الأنيق أثاثه. ” كل عام وشركتنا في تقدم وازدهار، عزة عمران”، تأملها بإعجاب، لا غرو أن شركته قد أكملت عامها الثاني بمعدل أرباح عال، وتبوأت مكانا مميزا بين شركات الاستيراد والتصدير في البلاد في زمن وجيز، وتنافس بقوة في سوق العمل، وتدخل في مناقصات عامة، وامتدت أعمالها لمجال الوساطة التجارية.
عزة، مديرة مكتبه يا لها من مكسب. أثبتت وجودها من أول يوم وطئت فيه قدماها الشركة. شعلة من النشاط، نبع عطاء متدفق، أداء مميز، تفان في خدمة الشركة، وتتحلى بذوق رفيع ولطف في تعاملها مع الموظفين والعملاء. يذكر أحداث ذلك اليوم جيدا، كان ذلك قبيل افتتاح الشركة أبوابها لممارسة عملها بين شركات الاستيراد والتصدير العريقة. فتاة في مقتبل العمر، في منتصف عقدها الثالث تقريبا، كاملة الأناقة، ممشوقة القوام، لها طلعة بهية مشرقه، ووجه بسام، وعينان زرقاوان واسعتان مملوءَتان فتنة أخاذة وفرحا وحيوية. كانت واثقة من نفسها، فخورة بجمالها وتخصصها في إدارة الأعمال. كان أداؤها في المعاينة مقنعا، حاضرة الذهن، لبقة، تتحدث الإنجليزية بطلاقة. ولديها إلمام كبير بمهام وظيفة “مدير مكتب”، وقد أحرزت درجات فاقت بها منافسيها من الجنسين، وتم تعيينها في الوظيفة المعلنة “مديرة مكتب المدير”. يذكر أنه أكثر ما رفع أسهمها عنده إجابتها عن آخر سؤال سئل لها في المعاينة، إذ قالت بكل ثقة: “أنا قادرة على تحويل بيئة العمل في الشركة إلى أسرة صغيرة، وسأدفع الجميع، حتى مدير الشركة نفسه، نحو الإنجاز والتميز”. جملة عبرت عن ثقة مطلقة وتحد كبير. هذه الدافعية وهذا التوجه جعلاه يختارها دون غيرها. تحد يعبر عنها وعنه في ذات الوقت، وثقة تبرز الكثير من معالم شخصيته أيضا، ثقة يعتز بها لدرجة الغرور أحيانا. فاستوحى من توجهها هذا، لاحقا، رؤية شركته:
تسعى شركة التاج للاستيراد والتصدير نحو الإنجاز والتميز بروح أسرة واحدة” كتبت بخط رقعة جميل على برواز زجاجي أنيق وعلقت على جدران ممرات ومكاتب الشركة، وعلقت أخرى بحجم كبير على صدر قاعة الاستقبال والاجتماعات.
وها هي أول من يهنئه بنجاحات الشركة، وهي تنهي عامها الثاني بأقدام راسخة وثبات. وهي أول من احتفل بمرور عام على التأسيس. لا يذكر مطلقا أنه لامها يوما على تقصير، لأنها لا تفكر بطريقته في العمل فحسب، بل بعقله أيضا. يحس أحيانا أنها جزء منه، العقل الذي يفكر به ومعه، الروح التي تسري في جسده ووجدانه. يسأل نفسه دائما طالما هي الشخص المناسب الذي يروق له، لماذا لم يعبر لها عن حبه حتى الآن؟، لماذا لم يضئ لها الضوء الأخضر لتتوهج أكثر؟، لتحس بالأمان معه نحو مستقبل تتحد فيه خطواتهما؟ يطيران معا كعصفورين لكل منهما جناح، يكمل كل منهما الآخر، يحلقان في فضاء رحب، يجوبا العالم الفسيح، يذهبان معا، يشاهدان الحياة بعيون يشحذها الأمل، ملئها الدفء والحنان، يدخلان مسارحا، يزوران متاحفا، يقطفا وردا، يعزفان لحنا شجيا. ماذا تنتظر يا تاج؟، إنها عزة، عزة التي إن نظرت إليها أرضت غرورك، وإن أسقيتها ماء الحياة أروتك حنانا، وإن تحدثت إليها أسعدت روحك، وإن استشرتها اطمأن قلبك، وتساءل في نفسه:
أليست أقرب بنات حواء إليك؟
أليست من يشركك في كل صغيرة وكبيرة في حياتها؟، خاصة كانت أو عامة؟.
ألم تسمح لك، وليس لغيرك، زيارة أهلها عندما يكون أخوها عزمي موجودا؟.
ألم تحكِ لك بالتفصيل عن مشاكل والدتها الصحية؟.
آه يا تاج، حتى متى؟ حتى متى؟ ستقتلك الحسرة إن لم تظفر بها. عزة التي لا تقبل رأيا إلا إذا اقتنعت بمبرراته، كيف أذعنت لرأيك دون أن تسألك عن مبررات عندما أشرت لها بأن صديقك المقرب زاهر عابدين لا يصلح لها زوجا ولا تصلح له زوجة، على الرغم من أنك تعلم تماما أنه شاب خلوق متدين حسن السيرة، ناجح في عمله، استطاع من موظف صغير في شركة أبرار أن يصبح، بفضل جهوده في تطويرها، مديرا عاما لها ويمتلك ربع أسهمها.