“عائدون” حراك سوداني لتعويض متضرري الحرب

بعد أكثر من شهر ونصف الشهر من بداية الحرب في السودان ظل خلالها التاجر محمد مصطفى البشرى (49 سنة) صامداً في منزله بضاحية الصافية في الخرطوم بحري ينتظر سكوت صوت المدافع والقصف ونهاية القتال، لكن سرعان ما تواترت الأنباء عن عمليات النهب والتخريب والحرائق في عمارة الذهب، أشهر مجمعات الخرطوم للمشغولات ومنتجات الذهب، إذ فقد البشرى ثلاثة من محاله التجارية بكل ما فيها ليقرر بعدها النزوح للنجاة بنفسه وأسرته.

إفقار كامل

لكن بحسب البشرى، وقبل أن يغادر هو وأسرته بيوم واحد، أفاق عند منتصف الليل على أصوات وابل من الرصاص أمام باب منزله، لتقتحم مجموعة بزي قوات “الدعم السريع”، مدججة ببنادق الكلاشنكوف والرشاشات، البيت وانهالت عليه ضرباً مبرحاً مطالبة بمفاتيح سيارتين والمشغولات الذهبية والنقود وإخلاء المنزل خلال نصف ساعة مقابل النجاة بأرواحهم.

خرجت الأسرة الصغيرة لتجد أن كل الحي تحت وطأة عمليات السلب والنهب، لم يكن أمامها خيار سوى التوجه شمالاً بسبب إغلاق كل جسر بالعاصمة، وهكذا بدأت رحلة نزوح أسرة أفقرتها الحرب بين ليلة وضحاها أسوة بعديد من الأسر السودانية ممن فقدت كل ما تملك لتنضم مع أخريات سابقات في إحدى المدارس المخصصة كدور لإيواء الفارين من جحيم حرب الخرطوم، بالولاية الشمالية.

قلق وانزعاج

منذ ذلك الحين ظل عديد من السودانيين ممن عبثت بهم أقدار الحرب وفقدوا كامل ممتلكاتهم وأموالهم بخاصة في ولايتي الخرطوم والجزيرة وبعض المناطق الأخرى، يتساءلون على مدى أكثر من عام ونصف العام، عن عدم تطرق مفاوضات ومساعي وقف الحرب اللاحقة، لتعويضهم أو جبر ما لحق بهم من أضرار، ولماذا ظلت قضية التعويضات مسكوتاً عنها طوال تلك الفترة؟ وما مصيرها؟

على رغم القرار الذي أصدره الفريق عبدالفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي القائد العام للجيش في أغسطس (آب) العام الماضي، بتكليف النائب العام برئاسة لجنة تضم ممثلين لجميع الأجهزة العدلية والنظامية ومفوضية حقوق الإنسان، لاتخاذ الإجراءات القانونية في مواجهة قيادات وأفراد “الدعم السريع” داخلياً وخارجياً، وكل من يثبت تورطه بالاشتراك أو التحريض أو المعاونة في أي عمل تخريبي، لكن ذلك لم يبدد مخاوف وقلق المتضررين في شأن الإهمال الذي يستشعرونه تجاه مسألة التعويضات وجبر الضرر وعدم الإشارة إليها بالوضوح الذي تستحقه بما يرضيهم ويطمئنهم.

وتشير تقديرات رسمية إلى أن حجم الخسائر الناجمة عن عمليات السرقة والنهب تقارب مبلغ 150 مليار دولار، من دون احتساب التدمير والتخريب الذي حدث في البنية التحتية للبلاد.

ودونت سجلات وزارة الداخلية السودانية خلال العام الأول من الحرب بلاغات بنهب أكثر من 150 ألف سيارة مملوكة للمواطنين معظمها من ولاية الخرطوم، كما طاولت عمليات النهب مصفاة الذهب في الخرطوم ومطابع العملة، وخزائن البنوك والشركات والمكاتب التجارية والحكومية.

حملة “عائدون”

في هذا الوقت أطلق ناشطون حقوقيون حملة للتعويضات تحت اسم “عائدون” الحقوقية المسجلة خارج السودان التي تهدف إلى وقف الحرب وتأكيد حق العودة للبيوت وضمان تحقيق العدالة الجنائية والتعويض وجبر الضرر.

وتسعى الحملة التي تضم قانونيين ومتخصصين ضمن خطواتها إلى تأكيد وضمان حق المتضررين في التعويضات بحشد أكبر قدر ممكن من الأسر المتضررة والدفع في اتجاه تدخل الأمم المتحدة ومطالبة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بتشكيل لجنة أممية متخصصة لتعويضات متضرري حرب السودان، وعدم الاكتفاء بتشكيل اللجان الحكومية المحلية.

ترى الحملة أن تقرير البعثة الأممية لتقصي الحقائق للتحقيق في جرائم وانتهاكات حرب السودان من خلال التوصية بمحاكمة المجرمين لدى “الجنائية الدولية”، فتح الباب أمام تعويض الضحايا المتضررين الذين وقعت في حقهم جرائم الحرب، مما دفعها إلى تكثيف نشاطها من أجل حشد أكبر عدد من مطالبات المتضررين بحضهم على تعبئة استمارات التسجيل عبر مواقعها الافتراضية المخصصة لذلك مع أرقام البلاغات لرفع القضية إلى المحافل القانونية الدولية.

بداية فعلية

وكشفت مصادر بالحملة عن نجاحها بالفعل في تسليم شكاوى وبيانات نحو 5663 من الأسر المتضررة بصورة مباشرة إلى البعثة الأممية لتقصي الحقائق حول جرائم الحرب بالسودان، مبينة أن الحملة بدأت المرحلة الثانية لتسليم بيانات مجموعات متضررة جديدة.

وأوضح الناشط الحقوقي في قيادة حملة “عائدون”، أحمد النصري، أن الحملة تعمل على الاطلاع على تجارب تعويضات سابقة مماثلة في بلدان شهدت أحداثاً وحروباً مشابهة مثل جنوب أفريقيا ورواندا وسيراليون واليابان وأخرى، للتعرف من خلالها إلى التكييف القانوني والأسس والوثائق التي قامت عليها تعويضات الضحايا وجبر الضرر، بخاصة في المناطق التي كان بها تدخل دولي.

أضاف النصري “لا بد من النظر كذلك في الطريقة التي تعامل بها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1593 لعام 2005، الخاص بإحالة الوضع في دارفور إلى المحكمة الجنائية في ما يخص تعويضات ضحايا الحرب، والوقوف على الصيغة التي جاءت عليها وطبيعة الصندوق الاستئماني المخصص للضحايا الذي أشار إليه القرار، ومن هم ممولوه والمساهمون فيه؟ وهل مجرمو الحرب معنيون بالدفع للضحايا وتعويضهم؟”.

الانشغال بالحرب

في السياق يرى حمدي حسن أحمد، الناشط السياسي والحقوقي والمرشح المستقل السابق لرئاسة الجمهورية، أن تعويضات الحرب إلى جانب كونها حقاً للمواطنين المتضررين، فهي تمثل خط الصفر للتمهيد لبداية عودة الحياة والأوضاع إلى طبيعتها قبل أزمة الحرب، لذلك يجب أن تكون في مقدمة أولويات وواجبات أقرب حكومة تشكل بعد الحرب، التي سيقع على عاتقها عبء استقطاب الموارد وحشد الدعم الإقليمي والدولي لمقابلة التزامات التعويضات وجبر الضرر.

يعزو أحمد الصمت وعدم فتح ملف تعويضات المتضررين من الحرب طوال الفترة الماضية، إلى انشغال السلطات المحلية والدوائر الإقليمية والدولية بقضية وقف الحرب نفسها، إلى جانب التركيز على القضايا الإنسانية الملحة، وقد يكون ذلك أيضاً خوفاً وخشية من الدخول مبكراً في التزامات قد يصعب الوفاء بها بالنظر إلى ضخامة الخسائر.

يطالب الناشط السياسي السلطات بضرورة الشروع في وضع الترتيبات والخطوات المرتبطة بإيجاد الآلية المناسبة لإدارة قضية التعويضات، وحسم الكيفية التي يتم بها تقدير التعويضات المطلوبة عبر إقرارات قضائية بغرض إكمال عمليات الحصر المطلوبة.

ملفات الجرائم

وكانت السلطات العدلية في السودان قد أكدت شروعها في إعداد ملفات قانونية في شأن جرائم وانتهاكات قوات “الدعم السريع”، المتعلقة بتدمير البنى التحتية والمؤسسات العامة ونهب ممتلكات المواطنين، تمهيداً للملاحقات القانونية لقيادات وعناصر تلك القوات وتوقيفهم ومحاكمتهم، إلى جانب الحصول على تعويضات وجبر ضرر المتضررين.

وأوضحت مصادر عدلية أن اللجنة التي شكلها رئيس مجلس السيادة الانتقالي قد دونت أكثر من 16 ألف بلاغ بالقتل ونهب الممتلكات والأموال وتدمير المنازل والمنشآت الاستثمارية وما زالت مستمرة في عملها.

أكدت المصادر أن المرحلة القادمة ستشهد تكثيف الحراك الحكومي على المستويين الإقليمي والدولي بغرض تحريك ملف تعويضات المتضررين، وذلك فور فراغ اللجان المعنية من عمليات الحصر الجارية للخسائر في القطاعين الحكومي والأهلي ومناشدة المتضررين تسجيل وتقديم بلاغاتهم اللازمة للحصول على التعويض.

تعاون دولي

على الصعيد نفسه يوضح المتخصص في مجال القانون الدولي، مأمون أحمد ناصر، أن القوانين الدولية تؤكد حق ضحايا جرائم الحروب والنزاعات في التعويض عبر اتفاقات دولية أو من خلال المحكمة الجنائية الدولية أو المحاكم الدولية ذات الاختصاص.

ويؤكد ناصر على أن التعويض وجبر الضرر حق لجميع المتضررين ولا يجوز إسقاطه تحت أي ظرف مهما حاول أي من أطراف الحرب التنصل من تلك المسؤولية، منوهاً بأن الآليات واللجان الوطنية قد لا تكون وحدها كافية لمتابعة ملف التعويضات.

لذلك يرى الأكاديمي ضرورة إتاحة الفرصة للجان دولية أو أممية متخصصة للتحقيق في الانتهاكات والتجاوزات التي وقعت أثناء الحرب، معتبراً في الوقت نفسه أن خطوة رفض الحكومة التعاون مع لجنة تقصي الحقائق الأممية التي شكلها مجلس حقوق الإنسان لا تصب في مصلحة قضية التعويضات.

ويشير ناصر إلى أن طبيعة الصراع في السودان وما صاحبه من جرائم وانتهاكات واسعة النطاق وذات طبيعة تتخطى القوانين والمحاكم الوطنية إلى القانون الدولي الإنساني، تستدعي بالضرورة تعاوناً إقليمياً ودولياً في المجالات الجنائية.

صندوق التعويضات

ويشدد المتخصص في مجال القانون الدولي على ضرورة تسريع السلطات السودانية اتصالاتها في شأن قيام صندوق دولي يمكن عبره الحصول على تعويضات لها وللمواطنين المتضررين وذلك تفادياً لكثير من الإجراءات القضائية الدولية، وبخاصة لناحية ترتيبات الوصول إلى أموال المتهمين المفترضين.

وكان النائب العام لجمهورية السودان، الفاتح محمد عيسى طيفور، رئيس اللجنة الوطنية للتحقيق في جرائم وانتهاكات “الدعم السريع”، أكد لدى لقائه المفوض السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، في جنيف قبل أسبوعين، استعداد اللجنة للتعاون مع مفوضية حقوق الإنسان الأممية.

وسبق أن طالب النائب العام السوداني، مجلس حقوق الإنسان والمجتمع الدولي بإعمال مبدأ التكاملية بحيث يكون الجهد الوطني هو الأساس، وتقديم المجلس المساعدة اللازمة لإنشاء صندوق دولي للتعويضات وجبر الضرر مع العون الفني واللوجيستي والاستشاري.

وأعرب تورك عن أمله في أن يتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار لتبدأ مرحلة المساءلة وأعمال مبادئ العدالة والعدالة الانتقالية، مؤكداً استعداد مكتبه لتقديم كل العون اللازم، لا سيما أن السودان في حاجة إلى المصالحة وجبر الضرر.

تعاون الجوار

وفي يونيو (حزيران) الماضي طالبت السلطات السودانية دول الجوار بالتعاون مع اللجنة الوطنية للوصول إلى الضحايا والشهود والمنهوبات أثناء الحرب، مؤكدة قدرة ونزاهة أجهزة العدالة الوطنية ورغبتها الأكيدة في تنفيذ مبدأ سيادة حكم القانون وصولاً إلى تحقيق العدالة وإنصاف الضحايا وتحقيق مبدأ عدم الإفلات من العقاب.

وإلى جانب منازل وممتلكات المواطنين شملت أعمال النهب والتدمير 32 جامعة وأكثر من 105 كليات جامعية بالعاصمة والولايات، وقدرت الخسائر والدمار بالقطاع الصحي بنحو 11 مليار دولار، وفق جراهام عبدالقادر، وزير الإعلام والمتحدث الرسمي باسم الحكومة.

كما نُهب ودُمر 3193 منشأة صناعية، وما يزيد على 100 ألف منشأة تجارية بولاية الخرطوم وحدها، كما تكبدت قطاعات المزارعين ومربو المواشي والدواجن خسائر فادحة فاقت 50 ألف بلاغ لجرائم ارتكبت خلال الأشهر الـ10 الأولى من الحرب المندلعة بين الجيش وقوات “الدعم السريع” منذ منتصف أبريل (نيسان) من العام الماضي.