بانت – رفاعة … قصة نزوح وفقد فادح(1-2)

 

  • في مساء صمت فيه الكون إلا من أصوات الرصاص تذوقنا رهبة الاجتياح
  • خرجنا في رحلة نزوح لم ندري إلى أين منتهاها ولا نملك غير الاستمرار فيها

رفاعة – سهير محمد عبدالله:

يوما ما ستضع الحرب أوزارها وستزر كل وازرة وزرها ،سنعيد فتح بيوتنا ونقيم مجالس عزاء لمن فقدنا في حرب لم نختبر مثلها طوال حياتنا,
قد لا يكون طريق الوصول إلى المناطق التي دمرتها الحرب سهلا ،لكل مكان قصته التي سيرويها بمعزل عن الآخر دون تلفيق, فحجم الضرر والدمار وآلة الموت التي لم تتوقف عن إنتاج الموت وحصره في ملف إحصاءات الضحايا, سيلعبون جميعهم دور الشاهد الملك على كل الإنتهاكات حتى يحين زمن القصاص، لكل ناج دمعته التي زرفها بلا توقف ولن تضيع الحكاوي سدى سيتدثر بها من بات جائعا مشردا في العراء دون كساء ،سيرويها كل حسب اوجاعه ومصابه وفي الضفة الأخرى قصص يود أصحابها أن تظل قابعة في دواخلهم لا يقوون على ترديدها حتى مع أنفسهم ، طريق العودة إلى الشوارع التي الفناها لم يعد متاحا والرجوع إلى منازل شيدناها بحبات العرق ورصفناها بصبر سنوات مضنيه حتى أصبحت قادرة على ايواءنا تحت اسقفها ودفء جدرانها لم يعد ممكنا لكل منا قصة لن تنتهي حتى بعد توقف الحرب لكل منا غصة جرحت حلقه في صمت ولكل منا صرخة استغاثة لم يكترث لها أحد
رهبة الاجتياح:
من رأى ليس كمن سمع وليتنا لم نرى ولم ندرك المعنى الفعلي لمفردة الاجتياح التي قلبت مصائرنا بين عشية وضحاها في مدن وقرى شرق الجزيرة المحاذية للطريق الشرقي الخرطوم- مدني, في مساء صمت فيه الكون إلا من أصوات الرصاص والمدافع الثقلية من الناحية الشرقية الشمالية لمدينة رفاعة, أي بمحازاة قريتنا بانت في ذات اليوم الذي إنضم فيه كيكل إلى صفوف الجيش في العشرين من أكتوبر المنصرم 2024 مما أثار حفيظة قوات الدعم السريع وجعلهم يرون ملامح كيكل بادية على قسمات كل مواطن بشرق الجزيرة وكانما تربطه بهم جميعا صلة الدم فترجموا ردة أفعالهم عنفا وبطشا( وتشفي), اقتحموا المنازل والأسواق وأفرغوها من كل ماتحويه وصبوا جل غضبهم في كل من تقع أعينهم عليه, فكان الجلد المبرح بالسياط من نصيب الأطفال والنساء والفتيات والشباب وحتى كبار السن لم ينجو من الاعتداء البدني فقد نالهم الضرب، والركل، وجذب الشعر.
النزوح ليلاً:
صحونا باكرا في يوم الجمعة الموافق 25 اكتوبر 2024 على أصوات تكسير الأبواب في عدة منازل بالقرية ولم تكن تلك هي المرة الأولى فقد استمرت محاولات اقتحام المنازل لعدة أيام مضت فكانت تارة تختفي أصوات التكسير بالآت وتعود لتسمع بعدها أصوات الرصاص المفزعة, لا أحد يدري ماكان يحدث في تلك الأثناء لا أحد يتجول في الأنحاء سوى منسوبي الدعم السريع بعضهم يرتدي زياً رسمياً يقودون بكاسي ومركبات عادية والبعض على درجات نارية و(تكاتك) وسيارات مختلفة و بلا سلاح ، بعضهم يحمل بنادق وآخرين سياط ومديات وسكاكين طويلة وسواطير تلازمهم أتيام ( الشفشافه) من الأطفال والنساء والرجال والشباب ، وقد عمدوا في بادئ الأمرعلى إفراغ الزرائب من الأبقار إذ تشتهر مناطق شرق الجزيرة بثروة حيوانية زاخرة فهي تعد جزء من التكوين الاجتماعي للأسرة فلا يكاد منزلا يخلو من بقرة أو ماعز أوضان, وانتقلوا بعد ذلك لنهب المواد الغذائية.
الدعامة في منزلنا:
عندما إنتصف نهار الجمعة تمكنوا من الوصول إلى منزلنا وفزعنا أيما فزع عندما توقف ( التكتك ) أمام الباب وترجل منه شخصين بزي الدعم السريع يحمل أحدهم عكازا غليظ ومدبب والثاني يحمل سكينا طويلة حول خصره طرقوا الباب والقوا علينا السلام وكان استجاوبهم لنا ما إذا كان بحوزتنا سلاح أو (ممنوعات )على حد تعبيرهم ولا ندري عن أي ممنوعات يتحدثون لكنها الزريعة لإقتحام المكان فاجبناهم أن لا سلاح ولا ممنوعات لدينا, ولكن لم يكترثوا لإفاداتنا ولم تمنعهم إجاباتنا بالنفي من بعثرة المكان وكل محتويات المنزل قلبت رأسا على عقب ولكن دون جدوى غادرونا بوفاض خالي لم يعثروا على مال مكدس أو مصوغات أوغيرها من المقتنيات ذات النفع .
حينها تنفسنا أنا وأسرتي الصعداء بعد مغادرتهم لنا بعد مضي لحظات عصيبة أثناء حملة التفتيش المرعبة وحمدنا الله على سلامتنا ولعلنا من المحظوظين القلائل الذين لم يطالهم الجلد أواستخدام أي نوع من أنواع العنف معنا، كما جاء على لسان العديدين ممن تعرضوا للجلد والترهيب تحت تهديد السلاح باستخدام الأعيرة النارية وتصويبها تحت الأقدام مباشرة حتى يتمكنوا من اقتلاع المعلومات عن المنازل التي توجد بها سيارات أومبالغ مالية أوذهب أوعن مواقع المخازن التي تحوي سلعا ومواد غذائية وبالفعل تمكنو من الحصول على الكثير من السيارات والمؤن والأموال التي لا تحصى ولا تعد.
رحلة نزوح قاس:
ظللنا بعدها نراقب من خلف الجدران وعبر النوافذ حالات السرقة والنهب التي ارتفعت بشكل كبير وسريع للمنازل المجاورة والتي بارحها ساكنيها ، جلسنا بعدها نعد ساعات النهار حتى تنقضي لنتسحب ليلا تاركين ورائنا يوما ثقيلا لتبدأ بعده رحلة نزوح قاس وصلب ولعل الخطوة الأولى بعد تخطينا حدود القرية ، احسسنا ان كل شيء يتبدل فالسماء ليست السماء والتربة ليست التربة, فالتربة تصبح ألوانا أخرى بعد كل منطقة نقصدها نلمس تغيرا كتغيرات المناخ حتى البشر ما بعد حدود القرية مختلفون ولعل أكثر مانفقده في حياتنا نفقده عندما نبارح منازلنا أو أوطاننا مجبرين
سرينا من قريتنا بانت شرق رفاعة وتقريبا كنا آخر العائلات المغادرة فلم يعد بالقرية صريخ بن يومين منذ بداية الأحداث إلا الذين تخلفوا بعد ذلك لأسباب مختلفة علمنا بها مؤخرا, غادرنا منازلنا ليلاً برفقة جيراننا في الحي وقد حملوا أطفالهم وأمتعتهم وكل ما يمكن أن يعينهم على مجاراة العيش أثناء النزوح وحملنا معهم بعض من أغراضنا في (عربة كارو) يجرها حمار وتهيئنا جميعنا لرحلة نزوح لم ندري إلى أين منتهاها ولا نملك خيارا سوى الاستمرار في المسير دون توقف حتى حدود البطانة شرقاُ كي نصل إلى أقرب نقطة يمكن أن تتوفر عندها وسيلة مواصلات لنتمكن عبرها الوصول إلى مكان آمن، سرنا الليل بطوله على الأقدام حتى ساعات الصباح الأولى حيث تمكننا من الوصول لقرية (ام مطاله) وهي أول قرية بعد قريتنا من الناحية الشرقية, ومنها واصلنا المسير قاصدين قرية (ام تلاته),وقبل أن نتوغل فيها شاهدنا أهلها مفزوعين في عجلة من أمرهم وقد شرعوا في الخروج من قريتهم بعد الأخبار التي تناقلها النازحون من القرى المجاورة بأن قوات الدعم السريع على مقربة منهم, فعمت بعدها حالة من الفوضى والهلع في المنطقة.
-نواصل-