قهوة بمذاق آخر(الحلقة الثانية)

عمر أحمد المصطفى حياتي (دار آريثيريا للنشر والتوزيع - الخرطوم - السودان)

 اسمك؟
سليمان عبد الستار عبد الرحمن
العمر؟
44 سنة جنابك
الوظيفة؟
-المدير المالي لشركة التاج للاستيراد والتصدير
*السكن؟
-الفتيحاب مربع 2
خلف ضابط التحري رجله وأشعل سيجارة، وأخذ منها نفسا عميقا، وحدَّق في عيني سليمان مرة وأخرى في الدخان المنبعث مع زفيره رافعا عنقه إلى أعلى وقال في صلف متكلف:
متى؟ وكيف اكتشفت فقدان الشيك؟
جنابك أنا بعد ما استلمت الظرف يوم الأربعاء يوم 28 الشهر الفات، شهر تسعة من نوال كنت
 قاطعه ضابط التحري:
*نوال دي منو؟
-سكرتيرة الشركة، جنابك، مساعدة عزة مديرة مكتب المدير
*طيب وبعدين؟
-وسألتها قالت لي دي أصول معاملة الكركدي وفيها الشيك البي 210 ألف دولار وصور معاملة الفورموست البي 47 ألف دولار، فمباشرة جنابك مشيت دخلته في الخزنة وقفلتها كويس، ورجعت غرفة الاجتماعات
*متأكد قفلتها كويس؟
-نعم جنابك دي من أساسيات عمل المحاسب
*تمام، والكلام ده كان متين؟
-كان يوم الأربعاء الفاتت جنابك بعدين لما فتحت الخزنة يوم الثلاثاء 4 أكتوبر لتسجيل معلومات المبايعة في نظام الشركة المالي وجدت الظرف كله صور، اتصلت بالتاج، وكان لسه ما وصل المكتب اليوم داك، والتاج جاكم هنا فتح البلاغ.
*تقدر تديني سبب مقنع أنك استلمت مستندات يوم الأربعاء 28 سبتمبر تفكر تسجلها يوم 4 اكتوبر ؟، يعني بعد ستة أيام؟، أفتكر ده عدم اكتراث منك؟
-عادي جنابك، المشكلة وين في كده؟
ورمقه بنظرة ملؤها الشك، وواصل في تدخين سيجارته وأسئلته:
*طبعا أكيد عندك خبر بأننا ذهبنا للشركة وأخذنا البصمات في مسرح الجريمة، واستلمنا الظرف ده، هل هذا الظرف الذي تقصده؟
-نعم
*الظرف ده ما مكتوب عليه أي حاجة من بره، وما عليه أثر فتح وإعادة غرى أو لصق مرة أخرى، بم تفسر ذلك؟
-صحيح جنابك، هو أصلا نوال ما كتبت عليه حاجة
*هل يمكن أن نقول مثلا أنه بتلاعب بسيط يمكن أن يقوم شخص ما، أنت أو غيرك، باستبدال الظرف الأصلي بظرف آخر من ظروف الشركة؟
تململ سليمان على كرسيه، وحدق في الضابط المحقق بعين تنم عن عدم قبول التهمة المبطنة في قوله ” أنت أو غيرك”، وأجاب بحدة بعد أن بلع ريقه
-نعم ممكن
*جميل، في حد تاني عنده مفتاح الخزنة؟
-لا
*جميل، حصل مرة كالون الخزنة استعصى فتحه وجبتو فني لإصلاحه؟
-أبدا
*مفتاح الخزنة لسه معاك؟ ولى شالوه منك؟
-رد سليمان بسرعة وعلى وجهه ثورة غضب ما تمالك إخفاؤها
شالوه مني كيف يعني؟، تقصد شنو جنابك؟
*يا سيد، ده تحقيق، عارف تحقيق معناه شنو؟، لو ما عارف أعرف أنك هنا للإجابة على أسئلتنا، السؤال مرة تانية، المفتاح معاك؟
-نعم، معاي
*ممكن اشوفه؟
أخرج سليمان حلقة بها خمس مفاتيح، وضعها على طاولة الضابط المحقق. تمعن اليها الضابط دون أن يلمسها، وأمره بأخذها، وواصل أسئلته:
*شايف المفاتيح دي فيها مفتاح عربية، العربية دي حقتك أم حقت الشركة؟
حقتي جنابك
*طيب، ممكن تسلف عربيتك لزميل في الشركة لو طلبها منك؟
-أكيد جنابك، لكن بطلع مفتاح العربية بس وبسلمو ليهو، ما بديهو كل المفاتيح
*ممتاز، طيب لو حبيت تجي يوم الجمعة تكمل شغلك بتدخل الشركة كيف؟
-ممنوع دخول الشركة يوم الجمعة، حسب تعليمات التاج مدير الشركة
*ده كلام جميل جدا، منو البفتح الشركة الصباح قبل دخول الموظفين؟
-عم حسن جنابك
*يطلع منو عم حسن ده؟
-عم حسن ده ماسك البوفيه الخاص بموظفي الشركة، وظيفته عامل خدمات
*أنت عندك مفتاح الشركة مش كده؟
-لا جنابك، المفتاح مع عم حسن فقط
*عم حسن قديم في الشركة، مش كده؟
-لا ما قديم، مما اشتغل معانا ليهو 10 شهور كده
*قبله مين كان ماسك بوفيه خدمات الشركة؟
-واحدة حبشية اسمها ألماظ، خلت الشغل
*مفتاح الشركة كان معاها؟
-لا جنابك، كان معاي أنا
*لما سلمت المفتاح لعم حسن غيرتو كالون باب الشركة؟
-لا جنابك، عادي نغيرو ليه؟
*أرجوك لما تسأل تجاوب وما ترجع لي السؤال، واضح
-واضح جنابك
*طيب الحبشية، الحبشية قلت لي أسمها منو؟
-ألماظ جنابك
*خلت الشغل أم رفدتوها؟
خلت الشغل
*تقدر تبرر لي حبشية تترك شغل في شركة توفر ليها إقامة رسمية ومرتب وترحيل وتأمين صحي دون مبررات
-والله الموضوع ده تفاصيلو عند التاج وحازم، أنا ما ملم بيها
*ليه التاج وحازم فقط، طالما هي أنثى وين نوال مثلا من الموضوع ده؟
-ما عندي معلومة جنابك
*طيب لوحة المفاتيح الفي مكتب مديرة مكتب المدير بيكون فيها مفتاح شنو؟
-فيها مفاتيح كل الأبواب عدا مكتبي ومكتب المدير
*سؤال أخير، بتشك في حد من زملائك في الشركة؟
-لا جنابك
*شكرا، أديك معلومة، أنت وكل وزملاءك ممنوعين من السفر إلى أن ينتهي التحقيق ونقبض على الجاني، أسماؤكم على أنظمة جوازات المعابر البرية والجوية والبحرية
-ما في مشكلة جنابك، لكن ممكن أسألك سؤال؟
قالها بعدم رضا واضح وتأفف
تفضل حقق معاي يا سيد سليمان
-أنت يا جنابك بتشك فيني؟، ولى قايلني كذاب، أنا قلت ليك لقيت الظرف ده كله صور، ما فيهو أي مستند أصلي ولا شيك، وبعدين الخزنة دي فيها مبلغ كبير من المال، وفيها عملات صعبة “يرو ودولار ويوان” مختوته جنب الظرف ده طوالي، لو أنا أصلا حرامي، ما كان ممكن أقول سرقوا جزء من هذه المبالغ أو كلها، فيا جنابو شكوكك دي ما في محلها
*يا أخ، يا سليمان، ده شغلنا، ونحن عارفين بنعمل شنو، اتفضل مشكور
حياه سليمان مودعا وخرج من مكتبه يجر قدميه جرا حزينا منكسر الخاطر
أخذ التحقيق زهاء اليومين مع كل موظفي الشركة عدا عزة، حتى التاج مالك الشركة ومديرها نفسه أخذت أقواله أكثر من مرة، لأسباب عده يراها الضابط المحقق منطقية، منها عدم التحقق من أسباب تأخر نزول مبايعة الفورموست والكركدي في نظام الشركة المالي في وقتها بواسطة المدير المالي، وتضارب أقواله في الزمان والمكان، وتبريره غير المنطقي عن تأخره صباح الثلاثاء ٤ أكتوبر حتى العاشرة صباحا وعدم منطقية حجته بأنه أدلى مرة بأنه تأخر مع زملائه بسبب تناول القهوة عند مونتا الحبشية بشارع النيل، ومرة أنه مر على صديقه زاهر عابدين في مكتبه
شكك الضابط المحقق ايضا في رواية كمال راسطا مدير التسويق والمبيعات في الشركة الذي اعتذر قبيل الاجتماع يوم 28 سبتمبر بحجة حادث السير غير المسجل في دوائر المرور، ومما زاد شكوك الضابط المحقق في ضلوع راسطا في اختفاء الشيك رفضه التحقيق معه بحجة أنه كان خارج مسرح الأحداث تماما، لم يحضر الاجتماع ولم يحضر الغداء الذي كان على شرف الضيف الخليجي، ورافضا الإجابة على سؤال الضابط المحقق مستفسرا إن كان قد عاد للشركة بعد ظهر الأربعاء 28 سبتمبر لأخذ مبلغ مالي يخصه من مكتبه لعلاج أخته أم لا؟، وثورته في وجه الضابط المحقق وتحدثه إليه بعنف مشيرا إلى أن أخته كانت بين الحياة والموت فكيف يتركها ليعود للشركة، وكانت نهاية الجملة التي أغضبت الضابط المحقق وحبس بسببها راسطا وحلق شعر رأسه بشفرة حادة دون رحمة قوله للمحقق في نهاية جملته “أنت بليد ولى شنو؟”، وكان رد الضابط المحقق” الليلة حا نوريك الطفى النور منو؟ عامل شعرك زي الفتاة كدة” ولم يشفع له سوى تقرير طبي بحالة أخته، وإفادة الطبيب المعالج لها وشهادة شابين من جيرانه بالحارة السابعة بأنه كان موجودا حتى مساء الأربعاء 28 سبتمبر في المستشفى، وأفرج عنه بعد يومين من حبسه
بينما كان التاج خارج مكتب التحقيق، يتحدث قلقا ومحبطا إلى سليمان وود محمود عن فشل كل محاولاته للاتصال بشيخ خالد العمري مالك ومدير شركة القور للأعمال التجارية بدولة الإمارات العربية المتحدة، ومعبرا عن تشتت تركيزه عن ملابسات سرقة الشيك، وعدم رضاه عن تردد الضابط المحقق واتهامه المبطن لكل من يحقق معه، إذ وقف أمام التاج فجأة رجل أشعث أغبر، قصير القامة على خده الأيسر شَلْخٌ سُلّم، يُشبه الحرف اتش (H)  في حروف اللغة الإنجليزية يرتدي عراقيا بلديا وسروالا طويلا متسخين، لونهما لتراب أم درمان المحمر أقرب، وسديرياً قصيرا ممزق الأطراف، وطاقية مهترئة تحول لونها من الأحمر إلى البرتقالي الباهت بفعل حرارة الشمس. لم يشعر به أحد إلا وهو بينهم منتصبا أمام التاج كنبت شيطاني، تجنب التاج النظر إليه متعمدا، وبدأ كأنه يبحث عن شيء في جيب بدلته الأنيقة، حسبه سليمان في بادئ الأمر متسولا، أو مغلوباً على أمره جاء يشكو مخدمه، اندفع الرجل وابتسامة عريضة تعلو وجهه ناحية التاج رافعا كلتا يديه ليعانقه، وصاح بأعلى صوته:
– التاج حمير، يازول وين الحي بيك؟، … بالله شوف الزول نضف كيف؟  بقيت أفندي آآ الحمار المكادي، الله قادر … الله قادر
وابتسم بصدق في وجه التاج، وأبدت نظراته تجاه التاج محبة وإلفة ورضا. ولكنه فوجئ ببرود التاج وردة فعله غير المتوقعة، برجوعه للخلف، وصرفه بيده عن مصافحته، كما لم تصدق أذناه ما سمع من رد التاج الذي قال غاضبا ومنفعلا:
يا راجل أنت مجنون؟، حمير في عينك، يلا بلا مكادي بلا كلام فاضي معاك، بعرفك من وين؟
وقف الرجل فاغرا فاه، غير مصدق ما سمعت أذناه، ورجع خطوات للخلف بعد أن ألحقه سليمان بتوبيخ قاس أيضا. صمت الرجل برهة ونظر للأرض ثم إلى التاج مليا مستغربا، ثم أطلق ضحكة ساخرة، وصفق بكلتا يديه، وقال في وجه التاج بصوت قوي:
علي الحرام أنا الحمار إن بعته في الأبيض ولقيتو بعد عشرة سنين في أم درمان وسط مية حمار بفرزو، قالوا “النسى قديمو تاه” يا ود العم، معليش، حليل أكلك معانا عصيدة الدخن بي ملاح المِرِس، وقعادك معانا فوق البعر في زريبة البهائم، علا مادام بقيت أفندي آآ الدبزاوي ونسيت ناسك، مبروكين عليك الأفندية، ما خاتي عليك خالك فضيل كان وسمك في وشك ده وسوالك علامة، أصلو عارفك من يومك قليل أصل
ذهب الرجل حال سبيله مغمغما يحرك رأسه يمنة ويسرة، ويلتفت كل مرة ليرى ذلك الوجه الذي يعرفه جيدا. ضحك التاج ضحكة باهتة ليستعيد بعضا من توازنه ويسيطر على الموقف، وحك أعلى خده الأيسر متحسسا الكدمة البائنة التي عُيِّر بها وقال لرفيقيه:
والله فعلا المجانين في نعيم، بالله شوف الأهبل ده!، قال زريبة قال!، بالله دي خِلق الزول يعرفها؟، دي أشكال الزول يتشرف بيها أصلا؟ وكان موجها وجهه ناحية ود محمود، حريصا على أن تصله كلماته غير آبه بسليمان.
صمت ود محمود كأن لا حراك به، متأملا فيما ذكره الرجل، لعله كان صادقا في قوله، خاصة وأنه تحدث بثقة كبيرة تؤكد معرفته بالتاج، وقد ناداه باسمه، ولقد سمع عدة مرات أن التاج يذكر خاله فضيل ممتنا له بفضله عليه. ابتسم ود محمود ابتسامة ساخرة، واقتفى بنظره أثر الرجل، وتتبع وجهته لحاجة في نفسه، وبسرعة بديهة اعتذر متحججا بالذهاب للحمام ليجدد وضوءه. أحس التاج بمكره ورغبته في اللحاق بالرجل ليستقصي منه حقيقة ما أدعى، فدعاهما مشاركته فنجان قهوة في بوفية مركز الشرطة، مدعيا أن به، على حد قوله “قهوة بي زنجبيل مبالغة
على نحو عشرين مترا منهم كان جالسا في هدوئه الذي لا يفارقه، على كنبة طويلة خارج مكتب التحقيق ينتظر دوره. رجل قصير نحيل الجسم في الخمسين من عمره وضيء الوجه، أشم، له شارب صغير وعينان سوداوتان واسعتان. ولما طال انتظاره ومل الجلوس والنظر للمارة من رجال شرطة، ومتهمين وشهود وغيرهم، سلّى نفسه ودندن بأغنيات من شعر الدوبيت لا يدري من شاعرها
ﻫﻤّﻚ ﻛﺎﻥْ ﺟﺒــﻞْ ﻟُﻮﻙ ﺍﻟﺼَّﺒُﺮْ ﺑِﺘْﻬِــﺪُّﻭ
ﻣُﺸْﻮﺍﺭَﻙْ ﻃﻮﻳـﻞْ ﻛَﺮّﺏْ ﻟِﺠﺎﻣَــﻚْ ﺷِﺪُّﻭ
ﻛَﻔَّﻚْ لي الضعيفْ ﺑﺎﻟﺤﺴﻨﺔْ ﺩﺍﻳﻤﺎ ﻣِﺪُّﻭ
ﻭﺍﻟﺒﺎﺏَ ﺍﻟْﺒِﺠِﻴـﺐَ ﺍﻟﺮِّﻳـﺢْ أﺧﻴﺮﻟَﻚْ ﺳِـﺪُّﻭ
***********
اﻏﺘﻨِﻢْ ﺍﻟﺸﺒﺎﺏْ ﻗَﺒُل ﺍﻟﺮِّﻭﻳـﺲْ ﻣَﺎ ﻳﺸِﻴـﺐْ
وﺍﻟﻌَﺎﻗﻞْ ﺩَﻭَﺍﻡْ ﻟَﻲْ ﻧَﻔْﺴُــﻮ ﺑِﺒْﻘَﻰ ﻃﺒﻴــﺐْ
ﻣﺎ ﺗﺨﻠِّﻴﻚْ ﻋَــﺠُﻮﻝْ ﺍﻟﻌَﺠَﻠﺔْ شِنْ بِتجِيبْ
ؤﺩَﺭْﺏَ ﺍﻟْﻤَﻬَﻠَﺔْ لي اﻠﺤَﻮﻝْ إﻥ ﺻﺒﺮﺕَ ﻗﺮﻳﺐْ
– يا عمك، هوي يا أب سديري ده، أنت اسمك حسن فضل السيد؟
انتبه لصوت شرطي قميء الوجه، يقف أمامه كعمود خرصاني، أجاب بفتور
أيوه …  إياني حسن
قوم تعال
مكث الضابط المحقق زهاء الساعتين مع عم حسن، سأله عن كل شيء في الشركة، زمن دخول كل موظف بالشركة، ساعات خروجهم ودخولهم أثناء ساعات العمل الرسمية، المشروبات التي يقدمها لهم، أكثرهم تناولا للقهوة، وهل لاحظ أحدهم يستخدم سكرا خاصا مثلا، أو أي منكهات أخري للقهوة؟، وأسئلة أخرى تدور في ذات المنحى. أجاب عم حسن عن جميع الأسئلة بوضوح يعكس طبيعة شخصيته البسيطة. وذكر فيما ذكر أنه لاحظ أن التاج تحمر عيناه بعد أن يشرب قهوة الصباح، وأن فنجانه تنبعث منه رائحة غريبة عند غسله، فقط هو الشخص الوحيد الذي يحدث له ذلك بعد شرب قهوته التي يشرب منها معظم الموظفين. أما رائحة فنجانه فلا يعرف لها سببا، وأفاد بأنه يستطيع دخول كل المكاتب دون استئذان إلا مكتب التاج. كما أجاب على سؤال آخر بقوله “ما دعوني والله جنابك للعيزومة … هسي عمك ده آآ جنابو شبه فنادق وكدي، وما قاعدين يعزموني، لكن مرات، النصيحة لي الله، بجيبو لي معاهم غدا”. وأفاد أيضا أن حازم موظف البرتوكول والإعلام رجع للشركة يوم الأربعاء ٢٨ سبتمبر حوالي الساعة الثالثة والربع، وخرج بسرعة قبل مجيء التاج، الذي كان يداوم على الإتيان لمكتبه ويخرج الساعة الرابعة إلا ربعا يوميا، مهما كان ظرفه. ولكن في ذلك اليوم جاء الساعة الرابعة إلا ربعا، ولم يجلس سوى المدة التي تكفيه لشرب القهوة وخرج.
أحس الضابط المحقق أن عم حسن تلجلج قليلا في كلامه وتحركت عيونه يمنة ويسره عندما سُئل عن ود محمود، لم يجب على الأسئلة الخاصة به، ولم يتحدث عنه كثيرا، فقط اكتفى بقوله:
– الزول أب دقينة ده أسالوا براك.
نحنا حا نسأله، وأكيد حا نطلبه ونحقق معه، لكن يا عم وضح لي كلامك ده شوية؟
أنا ما بدور ألخبت في الكلام، إن قلت عديل بعدين يجي يقول لي كلامك أعوج وفي شان شنو تقول كدي، زول صعيب وكعيب خلاص آجنابك، وعلى العليهو حُشري.
أكيد الراجل ده ما زولك؟
ده آخر واحد في الدنيا يكون زولي، أعوذ بالله من ود محمود، إت هسى آآ جنابك بتصاحب ليك زول ظالم ومتسلط؟
نفهم من كلامك ده أنك ما بتحب الراجل ده؟.
ما بدورو ساي آآ جنابك، ما بدورو لي الله ده، الزول ده بتحشر في أي شيء، وبدور يعلمنا الدين من أول وجديد، نحن مالنا؟ كفار؟، كان شافك بتصلي لي الله ده، يقول ليك ليه ركعت كدى، وخت يدك هِني، وفرق كريعاتك ديل، وات مستعجل مالك، والطمأنينة، والله آآ جنابك الطمأنينة العندنا تكفي بلد بي حالها، بنصحى على الوهاب، وبنوم راضين بالقسمو لينا، لا ضرينا زول، ولا هبشنا زول، ولا في زول شكى مننا، علا أب دقينة ده شغال بالناس وخلى رب الناس، ما عندو شغله غير سيرة الحريم، إن شاف ليهو توب ساي يجر واطي، وكلامو كلو ديك لابسة ضيق، وشوف التاج واقف معاها كيفن؟ عاينلو بتبسم كيفن؟ بتكون قالتلو شنو؟ والسكرتيرة ديك شينة إلا جسمها سمح وصلبها كبير.
تبسم الضابط المحقق وقال:
– كدي عيد لي الكلام ده تاني؟
أعيد ليك شنو؟ ما ياهو القلتو ده، هو ده كلامن بنعاد؟ هسي في ذمتك آآ جنابو ده كلام راجل ود رجال.
ثم أردف منفعلا:
لكن آآ جنابك آآ اخوى الدين ده مو واحد؟، الدين والله واحد، ودربو عديل ما فيهو لولوه، يا جنابك الرسول عليو أفضل السلام ما قال أنا الله بعثني عشان أتتم الاخلاق، ونحمد ربنا بي أخلاقنا وسيرتنا لا فيها شق لا فيها طق. يا جنابو الشاعر ما قال “ردد الدهر حسن سيرتهم”، الدهر زااتو ما شهد لينا نحن السودانيين ديل، ديل ما أنا وإت وكلنا آآ جنابك البدور ود محمود يعلمنا الدين، سبحان الله، قالوا غلفاء وشايلة موسها تطهر.
ضحك الضابط المحقق وأرخى ظهره على الكرسى وأراد أن يشجع عم حسن على الاسترسال في الحديث وقال:
ده كلام شنو يا عم حسن؟ …. كيف يعني؟،
خليهو اتعلمه هو لي رقبتو، هو الدين ده بتقسم آآ جنابو تشيل من هني وتخلي هني، الدين ده ما كوملبيت يا تشيلو كلو يا كمان تخلي كلو. إلا الناس سولو أسامي وأحزاب قطعوها من راسهم ده، هسي عمر بن الخطاب كان حزبو شنو؟ كان بخت عزبة عمتو على اليمين ولى لي ورا، جلابيتو كانت ورا وقدام ولى فيها كرشليق. ود محمود الله لا كسبه، التقول كان جار الصحابة.  آآ جنابو آآ خوي صلي على النبي، الزول ده ما تسعلني منو.
طيب يا عم حسن الزول ظلمك في حاجة، شال منك حاجة؟
لا علا سيرتو بتور نفسي مرة واحدة، إت كان بدور تعرفه أسال منو ناس عد القوز، قول لهم النام بي سكر الجمعية التعاونية منو؟ قول لهم أنابيب الغاز الإتسرقت من مخزن الجمعية التعاونية متهمين فوقها منو؟، والكلام ده جنابك مسجل عند الحيكومة، كم مره جابوه في الشرقي هِني في أركويت دي واستجوبوه، إت قايلني بتبلا فوقو ساكت، ده زول خرَّاب مسور ساكت آآ جاجنابو
نحنا حا نتحقق من كلامك ده، وحا نتصرف بطريقتنا، إنت قلت الراجل ده خراب مسور، تقصد شنو؟
انتو آآ جنابو اتعلمتو تعليم مدارس، الكلام ده مو هيلكم، هيلنا نحنا، درشتنا الحياة وعلمتنا، كبارنا زمان مجدونا تب ومسكونا الدرب، دربا عديل ما فيهو عوجة لا جاي ولا جاي، أها بجيبلك سيرتو، وإت أفرزو براك، الشاعر قال:
الكَيْ النَّجِيــضْ فــوقَ الرِّقَــابْ بِتْخَـلفُو
ؤالضيفْ ابْ حِمِلْ بِتْكِرْمُو زَامْلُو تَعَلْفُو
مَمْحُــوقَ الرجَــالْ قولُو البِسِيهُو أخَلْـفُو
بُــودَةْ وسِعِــدْ بَخْــرِبْ مَسـورَكْ يِتِلْفُــو
تبسم الضابط المحقق وكاد أن يقول لعم حسن “أبشر” تعظيما للمعاني التي أوردها فيما أنشد. وقاده تصوره العام لشخصية عم حسن أنه رجل على نياته ويمثل نموذجا لسوداني بسيط، بعكس خبث ود محمود وتحفظ سليمان وافتراء التاج، فشكره وهنأه على روحه العملية، ورأى أن يستدرجه في تحقيق آخر للحصول على تفصيل أدق عن العلاقات الاجتماعية بين موظفي الشركه، عله يجد طرف خيط يقوده لكيفية تسرب الشيك
أعيد استجواب ود محمود المدير الإداري لشركة التاج إثر إفادات عم حسن عنه، ووضع الشكوك حوله، بإفادات مباشرة وغير مباشرة حول نزاهته، كرر ود محمود نفس افاداته السابقة دون أن يضيف لها حرفا أو ينقص منها حرفا، والأمر الذي أدهش الضابط المحقق وجعله في حيرة من أمره، وتعجب من قدرة الرجل وإدراكه لما يؤول إليه السؤال فيجيب عن ثلاثة أسئلة لم تسأل بعد، برد على سؤال واحد. استنفذ الضابط المحقق كل أدواته وتقنياته للوصول إلى دليل أو قرينة أو أثر ما يربط ود محمود بخزينة الشركة، ولكنه لم يصل معه لقرينة أبدا. فحاول استفزازه عله يغير طريقته في الرد وفاجأه بقوله “قالوا ود محمود ينحني أمام كل فتاة جميلة”، لم يحرك الرجل ساكنا، ولم يتدفق الغضب من عينيه، وأجابه في هدوء وابتسام “الجمال نعمة يا جنابو، وإن الله جميل يحب الجمال”.  توقف الضابط المحقق عن الأسئلة وأطال النظر محتارا في معدن وطينة هذا الرجل. استغل ود ومحمود صمت الضابط المحقق فاعتذر له متعللا بأن وقت صلاة الظهر قد أزف ودعاه للصلاة في جماعة كسبا للأجر.
أقسمت نوال برب العرش أنها ما رجعت الشركة يوم الأربعاء المعني، مبينة على ذلك بأن عبد الباسط، والذي كان مدعوا معهم للغداء في الفندق، وهو من أوصلها إلى بيت أهلها في حلة حمد، وحلفت وأغلظت اليمين أنها ما دخلت مكتب سليمان إلا لصرف مرتب أو حوافز. ودللت على ذلك بقول سليمان كم مرة لها “إنت ما بتجي مكتبي ده إلا كان عندك قروش عندنا، سلام الله ده ما بجيبك لينا
تذكرت نوال بمرارة كيف أنها تلف طرحتها بإحكام على شعرها وجيدها ونحرها لتتفادى نظراته المريبة لصدرها الناهد قبل التوجه لمكتب سليمان لصرف حافز لها-وقلّ أن يجود التاج به- ووقوفها الطويل أمام باب مكتبه كأنها تستجدى بخيلا، ومقابلته السمجة، ومحاولة التلطف معها بعبارات سئمت سماعها, كقوله لها “السماك نوال ده زول ما عِندو فهم، حتى لو عاجبو حرف النون ده ما كان يسميك ناهد، عليك الله عيبي لي الاسم ده؟، اسم جميل مش كده؟” ويعاود إطالة النظر لصدرها بعين لا تستحي أبدا
ذهب الضابط المحقق إلى فرضية أبعد بكثير من تفكير نوال، ومن إدراكها أيضا. بكت بصوت عال أزعج الضباط المحققين في غرف أخرى عند سماعها التهمة المباشرة، المبنية على فرضية أن الأصول كلها لم توضع في الظروف التي كان من المفترض أن تسلم لطرفي المبايعة، إنما احتوت كل الظروف على صور فقط. لم تتوقع نوال أبدا فكرة كهذه، واتهامها اتهاما مباشرا هدأت قليلا وتماسكت بعض الشيء، وكررت اليمين عدة مرات أنها ” والله والله والله الذي لا إله إلا هو عملت بوصية التاج، ونفذتها كما ينبغي، وسلمت كل زول ظرفه، وسلمت ظرف الأصول لسليمان”، ثم تنهدت ومسحت دموعا انهمرت على خديها وقالت ويداها ترتجفان:
والله يا جنابو أبوي بالمعاش، عيان عندو سكري وعندو غضروف، راقد في السرير، ونظرو ضعيف، أنا بربي في أخواني الصغار، أنا عشان ما أتذل لي زول كنت بعوس مع أمي الكسرة وبنبيعها. خنقتها العبرة، وسكتت قليلا، وجففت دموعها المنهمرة على خدها ثانية، وأردفت: نحن ما ناس سرقة ولا اختلاسات، أبوي كان موظف حكومي مثالي لحدي ما نزل المعاش، بكره أجيب شعارات ودروع التكريم حقتو  تشوفها
في هذا الأثناء دخل شرطي مكتب الضابط المحقق وسلمه ورقة وانصرف. فإذا برقية من بنك البقعة التجاري، قرأها بروية
“نفيد سعادتكم بأن الشيك رقم 10764 المحرر على بنك البقعة التجاري بقيمة 47 ألف دولار قد تم صرفه باسم تاج السر خلف الله الإمام، جواز سفر رقم K09821761 يوم السبت بتاريخ ١ اكتوبر 2016 بالعملة المحلية الساعة التاسعة والربع صباحا
شكر نوال على تعاونها وأبلغها أنه ربما يحتاج إلى معلومات أخرى إن تطلب الأمر، وصرفها. وطلب التاج أن يدخل إليه التاج على فور بناء على ما جاءت به البرقية، وللتأكد من إفادته السابقة الخاصة بتناول القهوة في شارع النيل. دخل التاج محمر العينين مكفهرا، وأفاد بناء على أسئلة عدة واتهامات وجهت إليه بأنهم مجموعة من الأصدقاء والتجار يلتقون أحيانا عند مونتا الحبشية، يشربون القهوة الصباحية، ويتبادلون الأخبار، وأسعار الدولار، وأنه لم يدخل في ذلك اليوم بنك البقعة التجاري ولم يأت بشارعه أصلا، ولا يعرف شخصا باسم تاج السر خلف الله الإمام، ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بترك العاملة ألماظ للعمل في بوفيه خدمات الموظفين بالشركة، وأكد أنه قابل زاهر عابدين في إحدى إشارات المرور وحيا كل منهما الآخر من داخل عربته، ولم يزره في شركتهم
مسح الضابط المحقق على طرفي شاربه ورفع حاجبه الأيمن، وحاول أن يجد خيطا لعلاقات تبدو غير واضحة بين مونتا وألماظ الحبشيتان والتاج، ولكنه آثر التدقيق في هذا الأمر لاحقا بعد أن يجمع معلومات أكثر عنهما، ومن ثم يستدرج التاج في الحوار أثناء التحقيق، للوصول نقطة التقاء. ثم استدرك أن المشكلة الراهنة هي قضية الشيكين، فقال مفترضا
طيب لو فرضنا جدلا كما تفضلت أن الشيك رقم 10764 الخاص بمعاملة الفورموست صرف من قبل شخص أو تاجر آخر له علاقة بشيخ خالد، أو ادخله شيخ خالد في مبايعة لماذا لم تتصل به لتسأل ما إذا كان الشيك رقم 20047331 الخاص بمبايعة الكركدي بطرفه لتخلي طرفك على الأقل من الناحية الأخلاقية؟
وهو يحك بسبابته الكدمة التي على خده الأيسر
حاولت، حاولت والله عدة مرات، ولكني فشلت، لم يرد علي شيخ خالد، ثم تواصلت مع عبد الباسط، بعد أن أخذت رقم هاتفه من نوال، وعبد الباسط قال لي” أنه لا يعمل معهم أحد باسم تاج السر خلف الله الإمام، وأن شيخ خالد سافر إلى أديس أبابا الساعة السادسة مساء الجمعة ٣٠ سبتمبر، بعد سفر هوانشان بيومين..
قاطعة الضابط المحقق مستفسرا
مين عبد الباسط ؟، قبل شوية نوال ذكرت اسمه، ومين شان دا؟
صحيح يفترض أوضح ليك يا جنابو، عبد الباسط ده شاب سوداني وهوانشان صيني وهم الإثنين شغالين مع شيخ خالد.
طيب وبعدين الحصل شنو؟
أيواا ما قلت ليك عبد الباسط قال لي رقم شيخ خالد السوداني لا يستجيب، وليس له رقم آخر غيره، ولا يعرف رقما لهوانشان أصلا، وأن عمله مع شيخ خالد يبدأ بعد وصوله السودان، ويستأجر مكتبا في فندق الأكربول لمدة أسبوع أو أسبوعين، وتنتهي مهمة المكتب بسفر شيخ خالد، وليس له مرتب شهري، فقط يعطيه شيخ خالد مبلغاً مالياً نظير اتعابه قبل سفره”. ثم مال ظهره للخلف على الكرسي ورفع يده في وجه الضابط المحقق وأردف:
– جنابك أنا موجود، وفي أي وقت تحت أمرك، دي المرة الثالثة تحقق معاي، وأنا صاحب حق، وحقي مسروق، لكن أسمح لي أسألك سؤال، أنتو لميتو في حازم؟”
حسب علمنا، وحسب كلامك في التحقيق الأول أنو كان شغال طيلة أيام هذا الاسبوع واخد منك إجازة اليوم الثلاثاء عشان حا يرحل أخوه وعياله من مطار الخرطوم لكوستي. الكلام ده صاح؟
نعم جنابك، دي المعلومة العندي؟
نحنا بدورنا اتصلنا عليه عدة مرات لكن ما كان في رد !!!، ربما كان في حته ما فيها شبكة، لكن أطمئنك الراجل رد قبل شوية، وقال بصل في وقت متأخر مساء اليوم، ويوم الأربعاء الساعة الثامنة حا يكون معانا هنا للتحقيق
رد التاج منفعلا والغضب بين عينيه:
تضمن كيف جنابك؟ وكان شرد؟
ده شغلنا يا أستاذ، معليش لما تجتمع عليهو الأدلة وتدينو نحن بنعرف شغلنا معاهو، بعدين تعال أسألنا، نحن الآن في مرحلة تحقيق وجمع أدلة، مش ممكن تكون شكوكك دي لا أساس لها، أو عارية من الصحة، إلا إذا كانت في معلومة تانية أنت أو غيرك أخفاها علينا. وكان من شأنها يعني تقوية الدعوة
على كنبة الانتظار خارج غرفة التحقيق جلس حازم الفكي صباح الأربعاء كما وعد تماما عند الثامنة، ظل منتظرا إلى أن جاء الضابط المحقق عند التاسعة. واضعا في حسبانه الشكوك التي استقاها من تحقيقه مع التاج، أمر الضابط المحقق شرطيا ليتحقق من هوية الجالس على كنبة الانتظار، إن كان حازم أم غيره. ولما أكد له الشرطي أنه هو، تركه في الانتظار لنصف ساعة أخرى، وخرج من مكتبه يراقب لغة جسده، وفقا لما درس في آخر دورة تلقاها في برنامج الشرطة التدريبي أثناء الخدمة، التوتر، القلق، عدم الاستقرار المكاني، التعرق، سرعة حركة الرأس، وكثرة الالتفات، وحركة العينين، الارتباك، والتصرف غير المنطقي، فرقعة الأصابع. ولكنه لم يجد علامة من هذه يهتدي بها. فقرر اختباره بطريقة أخرى، فمر بالقرب منه وقال:
إنت، مش كده؟
ولما التفت وجد حازم كأن لم يسمع شيئا، فكرر العملية مرة أخرى، ولكن بلا جدوى، فوكز حازم برجله، واعتذر له، فاستيقظ حازم الذي يبدو أنه كان نائما بالفعل أو متظاهرا بالنوم. أدهشه ما رأى، أدخله غرفة التحقيق وأيقن أن الذي أمامه ما هو إلا شخص لا تهمه التهمة، وأنه غير مبال لما يجري في الشركة. سأله عدة أسئلة، ولم يركز كثيرا في ردوده، ودون بعضا من أقواله وصرفه.