عبدالناصر في ذكرى الرحيل 

بُعد .. و .. مسافة _ مصطفى ابوالعزائم 

 

* أيام قليلة وتطل علينا الذكرى الثالثة والخمسين لوفاة الزعيم العربي والرئيس المصري الأسبق (جمال عبد الناصر) ، والذي كان رحيله مفاجئاً تماماً ، وشكّل وقتها صدمة عنيفة في كل المنطقة العربية وهز أفئدة الشعوب التي كانت ترى فيه مخلّصاً لها من الظلم ومنقذاً لها من الهيمنة الإستعمارية ، والذي كان يعتبر العدو الأول للإمبريالية في منطقة الشرق الأوسط ، والثاني في العالم بعد الإتحاد السوفيتي الحاضن الأول للفكر الماركسي ، وقد تبنى الإتحاد السوفيتي آنذاك كل مناهضي الغرب وخصوم الفكر الرأسمالي في الدنيا .

 

*مات جمال عبد الناصر وهو بعد في الثانية والخمسين من عمره ، بعد إختتام أعمال قمة ملوك ورؤساء العرب في القاهرة عام 1971م عقب توديعه لأمير الكويت في مطار القاهرة ، يوم الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1971 م ، ومع صغر سنه النسبي مقارنة بكثير من الحكام والرؤساء في دول العالم الثالث ، إلا أنه يعتبر من أكثرهم وأعظمهم أثراً وتأثيراً على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي ، وقد شيعه وفق مصادر مصرية وأجنبية آنذاك ، أكثر من خمسة ملايين مواطن ، أكثرهم بين مصدّقٍ ومكذّب للنبأ العظيم ، لذلك كان الهتاف الأعلى والأقوى في ذلك اليوم هو : (خالد خالد يا أبو خالد) .

 

*الخرطوم نفسها توشحت بالسواد في ذلك اليوم ، وقطعت الإذاعة السودانية برامجها الرسمية ولم تعد تبث إلا القرآن الكريم ونشرات الأخبار وبرقيات العزاء التي تصل إلى الرئيس (نميري) الذي كان يعتبر حليفاً إستراتيجياً للرئيس (عبدالناصر) ، مثله مثل العقيد الليبي (معمر القذافي) الذي تأثر بزعامة (عبد الناصر) إلى الدرجة التي جعلته ينصب من نفسه وريثاً شرعياً للثورة ، وحامل لواء الوحدة العربية الأوحد بعد وفاة الزعيم ، وكانت الشعارات تملأ الشوارع في الخرطوم (ناصر ، نميري ، قذافي) و (حرية ، إشتراكية ، وحدة) ، وأذكر يومها ونحن صبية نتأثر بالدعاية السياسية ونؤمن بحتمية الثورة والتغيير وفق مفاهيم صبيانية لم تنضج بعد ، أذكر كيف تأثرنا بالحدث ، وكنا نرى أثر الصدمة في وجوه أساتذتنا داخل مدرسة أم درمان الأميرية الوسطى – قبيل تغيير السلم التعليمي – فتجمعنا في فناء المدرسة ومعنا طلاب مدرستي (ودنوباوي الوسطى) و(وادي سيدنا) الثانوية بعد إنتقالها إلى (حوش) المدرسة الأميرية الذي كان يضم مدارسنا تلك في (حوش) واحد بعد أن تم نقل الكلية الحربية إلى مباني وادي سيدنا الثانوية شمال أم درمان .

 

*تجمعنا وخرجنا إلى شارع الموردة عند المدخل الرئيسي للمدرسة ، نردد الهتافات مثل تلك التي أشرنا إليها في بداية هذا المقال (خالد خالد يا أبوخالد) ؛ وكان للإعلام المصري سطوته وللثورة المصرية جذوتها ، وسرعان ما امتلأ الشارع بالمواكب الحزينة التي قوامها طلاب المدارس الوسطى والثانوية ، ثم إنضم إليها آخرون بعضهم حمل صورة الزعيم وبعضهم كان يجهش بالبكاء ، وكان مقصدنا سفارة مصر الشقيقة بالخرطوم ، عشرات الآلاف سرعان ما تضاعفت أعدادهم عند محيط السفارة المصرية ، فأصبح ذلك اليوم أحد الأيام التي لا تنسى ولا تنمحي من الذاكرة. *بعد أيام قليلة تمر ذكرى ذلك اليوم ، وقد قفزت أسئلة مشروعة ، إلى الذهن سبق أن طرحها البعض من قبل في الإعلام المصري والعربي مثل (هل مات عبد الناصر مقتولاً ؟)، ومثل : (هل لرحلته الأخيرة المتصلة بالعلاج الطبيعي للإتحاد السوفيتي – السابق – علاقة بالأزمة القلبية المفاجئة التي داهمته وقضت عليه؟، وأسئلة أخرى على شاكلة ( ماذا لو كان الله سبحانه وتعالى قد مدّ في عمر عبد الناصر لسنوات ، ترى هل كان سيخوض حرب أكتوبر 1973م ؟ .

 

*وكيف كان سيكون موقفه مع إسرائيل بعد أن قبل بمبادرة روجرز الأمريكية ؟، ومثل (هل كان مشروعه الأكبر وحلمه الأعظم في الوحدة العربية سيتحقق ؟ 7 وهل كان سيعمل على مصالحة تنظيم الإخوان المسلمين الذي إنتمى إليه ذات يوم بعد أن إتهم الجماعة بمحاولة إغتياله في الإسكندرية ولكنها نفت ذلك ؟، وهل كان الإخوان المسلمون سيقبلون الصفح عنه بعد إعدام سيد قطب وعدد من قيادات الجماعة ؟ .

 

*الأسئلة كثيرة ويصعب التنبؤ بإجاباتها ، لأن الله سبحانه وتعالى كان قد قضى في الأمر، وكنت قد ذكرتُ ذات يوم ، عدداً من الأصدقاء بمناسبة الرحيل تلك ومن بينهم الصديق الأديب الأريب والزميل الممسك بفنون الكتابة الصحفية المدعّمة بالمعارف والعلوم ، الأستاذ (مصطفى عبد العزيز البطل) ، وقد أرفقت للجميع مقاطع فيديو لإحدى خطب الرئيس (عبد الناصر) يتحدث فيها عن الفساد ، فكان رد البطل عليّ عجيباً وقوياً وهو (العاملين ناصريين ذاتهم ما تذكروا) ، فكان ردي عليه هو : (ديل من تجار القرون الحديثة، تجارة بالأفكار والقضايا من أجل المصالح الخاصة) ، فرد عليّ البطل بـ(بالضبط)، وعموماً زمن الأفكار والنظريات والمذاهب إنتهى ، فكان ردي عليه ضمن هذا الحوار ووسائل التواصل الإسفيرية : ( ده عصر الصراع بين القيم والمعتقدات وبين المنافع الخاصة، لذلك يظهر علماء السلطان ويظهر التطرف وتظهر العنصرية وتنمو سياسات التمييز الديني والأثني) .

 

*رحم الله الرئيس (جمال عبد الناصر)، فالذي أحدثه في ساحات العمل السياسي والإقتصادي والفكري جعل أبواب النقاش والحوار مشرعة ومفتوحة إلى يومنا هذا .