
منصّة بلا صوت
لمياء موسى
*اسمحوا لي، أيها القرّاء الأعزاء، أن أصحبكم معي في هذا المقال، لأقصّ عليكم حكاية تبدأ من قاعة الدرس، من أول خطوة لطالبةٍ في كلية القانون.
*في صباحها الأول، حين عبرت بوابة الجامعة الكبيرة، استوقفت الحارس تسأله عن طريق الكلية. ابتسم وقال: ذاك المبنى القائم أمامك مباشرة.
*وهناك، أمام ذلك البناء، وقفت بطلتنا تتأمله بعينٍ دامعة وفضولٍ مشدوه، فإذا برمز العدل المنحوت على جدار الكلية مكسورًا، نصفه مائل، وقد تُرك على حاله بلا صيانة منذ سنين طويلة.
*عندها شعرت برعشةٍ غريبة، وقالت في سرّها: يا له من فألٍ سيّئ! كيف يكون أول ما تراه عيني في أول يومٍ، رمزًا للعدل مكسورًا؟ وكيف لم يلتفت أحد إليه ويحاول إصلاحه؟
*ومضت الأيام كما تمضي الريح فوق أوراق الخريف، حتى أكملت سنواتها الأربع، تحمل بين جنباتها أحلام العدالة المفقودة.
*وفي سنتها الأخيرة، وقفت في إحدى المحاضرات لتجيب على سؤالٍ طرحه المحاضر، فقالت بصوتٍ واثق
لا حلَّ إلا باتحاد الإخوة، وإلا ستظل الأزمة تتفاقم بلا نهاية، وسيبتلعنا الغول جميعًا دون أن ينجو منا أحد.
*هزَّ المحاضر رأسه متأمّلًا، ثم قال
نعم… لكن هناك منصّة تجمع الإخوة وتقرّبهم، ونأمل أن يزداد أثرها في الأعوام القادمة.
ابتسمت الطالبة بمرارة، وقالت بنبرةٍ يغلبها اليأس
لا أظن، بل ستضعف مع الوقت، ولن يكون لها شأنٌ يُذكر. فالإخوة متفرّقون، وكلّ يومٍ تزداد فرقتهم واختلافهم أكثر، ولا أجد أي بارقة أمل.
*رفع حاجبيه وقال بلطفٍ مشوبٍ بالحزم
أاطّلعتِ على الغيب؟ كوني متفائلة انتهى النقاش.
*وهكذا أُسدل الستار على تلك المحاضرة، كما أُسدل على الحوار بين الإخوة.
*ومنذ تلك اللحظة، بدأت جدران الصمت ترتفع بينهم، وتزداد سُمكًا وعلوًّا، وبنت القوميات سدودًا من سوء الظن والعصبيات، حتى ضاقت الأرض بهم، وانقسمت بحدودٍ من نارٍ وغياب. وصار كلُّ أخٍ يعاير أخاه ويهينه.
*ومع مرور الوقت، أخذت الأصوات تتعالى، كلٌّ يزعم أنه الأحقّ والأقوى، حتى صار الخلاف ميراثًا يتناقله الأبناء عن الآباء.
*الإخوة الذين يملكون المال قالوا بزهوٍ وغرور:
نحن الأقوى والأعزّ، أمّا أنتم فالأضعف والأدنى. خيرُنا وعطفُنا إليكم نازل، وضجيجكم وقلّة شكركم إلينا صاعد.
فردّ عليهم إخوةٌ آخرون بثقةٍ مفرطة
اللعنة عليكم! أيّ شكرٍ تريدون؟ نحن الأرفع شأنًا، والأرقى مقامًا، تشهد علينا الأزمان والحجارة، حملنا العلم والحضارة، وعلّمناكم أبجديات الحرف والكتابة.
*ولم يكد صدى الجدال يخفت حتى ارتفع صوت فريقٍ ثالثٍ، يلوّح براية الدين ويجلجل بالحكم والتكفير:
لا مال يرفع قدرًا، ولا علمٌ وحضارةٌ تعلي شأنًا. أنتم جميعكم خوارج، خرجتم من دين محمد، وكفرتم برسالته، وحقت عليكم كلمة العذاب. فلا أخوّة بيننا، ولا تحكمون بما أنزل ربنا، فلا خير فيكم. نحن الأكرم نسبًا، والأشرف أصلًا
*وبينما كانت السماء تمطر لهيب التناحر، خرج فريقٌ رابعٌ يتّكئ على سخريةٍ متعجرفة، كأنهم يرون في الماضي عبئًا ثقيلًا، وفي التراث قيدًا مخيفًا
ما هذا سوى تخلّف! أنتم جميعكم أوفياء لعصورٍ انقضت ودفنت نفسها في غبار التاريخ. أمّا نحن، فسوف ننهل قوانيننا من أممٍ سبقتنا في مدارج الحضارة، ونمزّق صلتنا بلغةٍ ما عادت سوى رمزٍ للجمود والبداءة. مدارسنا ستغدو مشاعل تلتهب بلغاتٍ أجنبية، تنفتح نوافذها على محيطاتٍ مترامية، وتمنح أبناءنا أجنحةً عملاقةً يحلّقون بها بعيدًا عن ضيق تراثكم وانغلاقه.
*وبين كلّ هذا الصخب، جاء صوتٌ خافتٌ من فريقٍ خامسٍ، يحمل وجع الجوع والانكسار:
نحن لا نملك مالًا ولا علمًا والجوع قطم ظهورنا، وأصبحنا نشكّ من كثرة الفتن علينا في ديننا. فأين الأخوّة والسند؟
*لكن أحدًا لم يُجب، فبقي صداهم يتلاشى في الفراغ، وتركهم إخوتهم لمصيرٍ موحشٍ كلَيلٍ بلا قمر.
*وعندما بلغ الشرخ بينهم مداه، خطر ببالهم أن يجتمعوا، لعلّ صوت الجمع يطغى على همس الفرقة.
*يطلّون من شاشةٍ عريضة، فإذا بهم ينهالون شجارًا وعراكًا، يتقاذفون الكلمات، ويغرسون في بعضهم جراحًا من لهبٍ ومرارة. ارتفعت الأصوات حتى غطّت على أيّ معنى، وتحوّل اللقاء إلى ساحةٍ للخصام لا للوصال.
*وحين خمد الصخب، بدا المشهد عاريًا من أيّ ثمرة؛ فلم تُسعفهم منصّتُهم بشيءٍ يُذكر، لا مالًا يُقيم اقتصادًا، ولا دبلوماسيةً تُطفئ نزاعًا، ولا سياسةً ترمّم خرابًا
*غدت منصّتُهم مجرّد قشرةٍ خاويةٍ بلا لبّ، وصورةٍ باهتةٍ بلا روح.
*آنذاك، حين خيّم الصمت على كلّ شيء، وقف الغول يراقب المشهد من بعيد، يبتسم لفرقتهم، ويحصي شتاتهم، ويتلذّذ بانقسامهم، ثم يمدّ لهم يده الخفية، يساعدهم ويدعمهم فيما اختاروه بأنفسهم من غرورٍ وكبرياء… حتى صار عجزهم غذاءً لقوّته.
*ومع مرور الأيام، أخذ الغول يزداد قوّةً بانكسارهم وتشتّت صفوفهم، حتى تمكّن من الانفراد بكلّ أخٍ على حدة، يستنزف قواه، ويستولي على ماله، ويقضم ما تبقّى من عزيمته، ويشوّه حاضره، ويطمس تاريخه، ويدنّس حضارته.
*ومع الأيام تضخّم الغول، حتى صار وحشًا كاسرًا قادرًا على أن يفترسهم جميعًا بلا جهدٍ يُذكر.
*مع أنهم كانوا ـ وما زالوا ـ يملكون كلّ ما يُؤهّلهم لأن يكونوا قوّةً تُهاب: لسانًا واحدًا، وتاريخًا مشتركًا يشدّ أواصرهم، وثقافةً موحّدةً تعكس روحهم، وذكرياتٍ واحدةً تسكن وجدانهم، وعاداتٍ وتقاليد متشابهةً تُقرّب بعضهم من بعض، وخلفيةً دينيةً تجمعهم تحت سقفٍ واحد.
*لقد أوتوا المال الوفير، والعلم والخبرات المتراكمة، والعقل، وتوافرت لهم كلّ أسباب النجاة والنهضة.
*لكنهم أداروا ظهورهم لها جميعًا، واستبدلوا مجدهم القديم بعنادٍ وصراعٍ أجوف، وولّوا وجوههم شطر كبريائهم وغرورهم.
*فلم يزدهم الغرور إلا تيهًا، ولم يشفع لهم الكِبر ساعة السقوط، بل كان عذاب الوحش مضاعفًا فيهم، فكان سقوطهم مدويًّا كأمّةٍ أطفأت أنوارها بيدها.
*والآن، يقف كلّ واحدٍ منهم أمام مرآته، ينبش في ذاكرته بحثًا عن أخٍ ضيّعه بيده.
*لكن هل ينفع الندم؟
أم لا بدَّ أن يجدّفوا جميعًا بكلّ ما أوتوا من قوّةٍ ضدّ التيار، قبل أن ينزلق قاربهم في منحدرٍ مائيٍّ لا يرحم؟
منحدرٌ قد يحطّم القارب كلّه، ويقذفه إلى قاع الشلال حيث الصخرة الأخيرة… والنهاية.
*فهل ينجحون هذه المرّة في لَمِّ شملهم، وكسر الحواجز التي أقاموها بأيديهم، ليعودوا قوّةً واحدةً تقف في وجه وحشٍ كاسرٍ لا يعرف رحمة؟
*إجابة هذا السؤال بين أيديكم، أيها القرّاء
*هل سينتظرون حتى تبتلعهم النهاية؟
أم يختارون طريق النجاة قبل فوات الأوان؟
أمّا أنا… فلا أملك الجواب الآن،
فأنا سأنتظر كما قال المحاضر،
لأنّي لا أعرف الغيب.
* كاتبة مصرية مقيمة في لندن