
قحطٌ وتفريخات وكيف صاغت المأساةُ كراهيةً وطنيةً لا تُمحى
بقلم د. إسماعيل الحكيم
Elhakeem.1973@gmail.com
نما الظلامُ في شقٍّ من أرضِنا ليس من جفافِ المطرِ بل من قحطٍ حمدوك ومناع ، ومن تفريخاتٍ استغلت الفراغَ الأمنيّ والسياسيّ المقصود وقتها لتَنبُتَ ميليشياتٍ أدمنت العنفَ والاستبداد. من هذا القحطِ خرجتْ رعونة ميليشيا آل دقلو (زايد) الإرهابية، فكانت شرارةً أوقدت أوجاعاً لم تعهَدها ضمائرُ السودانيين قبلاً.
في البدءِ كانت للمليشيا وعودٌ وأذرعٌ للنفعِ الآني؛ جماعاتٌ وعدت بحمايةٍ زائفةٍ ونفوذٍ اقتصاديٍّ، لكنّ سرعان ما انقلبت الأقنعةُ إلى أدواتٍ للهيمنةِ والنهبِ. لقد تحوّل التأسيسُ الذي زُعم أنه لردع الفوضى، إلى منظومةٍ موازيةٍ تمارسُ الانتهاكاتِ المفتوحة من اعتقالاتٍ تعسفيةٍ ونهبٍ منظّمٍ للمواردِ وتهجيرٌ قسريٌّ للمدنِ والقرى، بل وإجرامٌ بحق المدنيين بلا تمييز. أمام هذه الجرائمِ اليوميةِ، لم تعد قلوبُ السودانيين كما كانت من قبل محبةُ للخيرِ مسالمة وادعة..
كانت النتيجةُ توقعيةً في قوتها.. كراهيةٌ عامةٌ وتوحّدٌ في الرفض غير مسبوق . إن الذين تربّوا على قيمِ الإحسانِ والتراحمِ وجدوا ذواتِهم مَجْرَدةً من قِبَلِ من استباحوا الأرضَ والإنسانَ باسمِ القوة. لم تكن هذه الكراهيةُ شعوراَ عاطفيّاً عابرٍاَ ، بل تحوّل إلى وعيٍ جماعيٍّ واضحٍ يرفضُ كلَّ من يناصرُ المليشيا أو يلتزم الصمتَ إزاء جرائمها. لقد عاش الشعبُ لحظةَ كشفٍ صارخةٍ، صار فيها كلُّ تأييدٍ أو صمتٍ موقفاً لا يُمحى من ذاكرةِ التاريخ.
ولِعجبٍ ما أشدّهُ، أن الحربَ نفسها ــ رغم كلِّ خَسارَتِها وبشاعتها ــ أظهرتْ مَعانٍ إيجابيةً لم تكن لتندرَ لولاها. الصراعُ عرّى النفوسَ، فرزّ الناسَ بين وطَنيٍ حقيقيٍّ يقفُ ليدافعَ عن الأرضِ والشرفِ وبين من اختار الانتهازيةَ والخيانةَ. بهذا التمييزِ استعاد السودانيون قيمةَ أن يكونَ لهم جيشٌ وطنيٌّ محترفٌ، جيشٌ لا يُوظَّفُ لابتزازِ الشعبِ ولا يَتخلّفُ عن واجبهِ المهنيّ، جيشٌ يبقى صامداً رغم السنينَ الطويلةِ من التحدياتِ، لا تنحني له قناةٌ ولا تخور له عزيمةٌ.
ولعلّ أعظمَ ميراثٍ خلفته هذه السنواتُ الموجعةُ هو وعيٌ روحيٌّ ووحدةٌ وطنيةٌ لم تَكن لتتشكّلَ ولو أن الحكوماتِ أنفقتْ خزائنَها دون إصلاحٍ في العقولِ والنُفوسِ. لقد أدرك الناسُ أن الإنفاقَ الماليّ وحدَه لا يكفي لاستعادةِ كرامةِ الوطنِ إنما يحتاجُ الأمرُ إلى بناءِ قِيَمٍ جديدةٍ إخلاصٌ للوطن، تضحيةٌ بلا مَصلحةٍ آنيةٍ، وصدقٌ في القولِ والعملِ. تلك القِيَمُ هي العمادُ الذي سيبني به السودانُ مستقبلهُ الحرّ المستقلّ، لا المالُ المسلوبُ ولا النفوذُ الدمويُّ.
والرسالةُ التي يرفعها الشعبُ اليومَ إلى القاصي والداني واضحةٌ هذه الأرضُ لنا، ولنا وحدنا حقُّ تدبيرِها وحمايتُها. فمن يحاول اغتصابها بالقوةِ أو بالسرقةِ سيلقى رفضاً لا يلينُ، ومن ارتضى لنفسه الوقوفَ في ركبِ المليشياتِ أو دعمِها سيُحكمُ عليه التاريخُ بالخيانةِ والرفضِ. فهي دعوةٌ لا لاستئصالِ الخصمِ بشغبٍ، بل لسنِّ دولةٍ تحكمُ بالقانونِ وتحصنُ المواطنَ، وللتحقّقِ من أن القواتَ التي تحملُ السلاحَ هي سيوفٌ تحمي الشعبَ لا سواطيرُ تقطعُ أوصالَه.
ويبقى أمامنا خياران لا ثالث لهما أن نسمحَ للقحطِ أن يستمرّ في تفريخِ أعداءٍ ينهَشونَ الوطنَ، أو أن نحوّلَ ما تركته الحربُ من ألمٍ إلى دروسٍ تُشيدُ وطناً أفضل. الخيارُ للشعبِ، وللشبابِ الذي صار أكثرَ وعياً، وللجيشِ الذي أثبتَ أنه الحاميُ حين يُؤدّي واجبهُ بشرفٍ ومهنيةٍ. فليعلُنْ السودانيون بصوتٍ واحدٍ: أرضنا ليست للبيع، وكرامتنا ليست للمساومة، وهذه الأرض لنا ولن نرضى بغيرها وطناً حراً موحداً.