آخر الأخبار

بنادق أمهات أبوقمرة… حين نطقت دارفور بصوت النساء

 

عمرو خان

*في الجنوب الدارفوري، حيث تتقاطع الريح مع الغبار وتتشابك الحكايات مع الوجع، نهضت أبوقمرة من سكونها لتعلن أن دارفور لا تموت، وأن الصبر يمكن أن يتحول إلى بندقية.

*لم تكن القرية تعرف ضجيج المعارك، كانت تنام على وقع الأغاني البسيطة ورائحة الطين بعد المطر.. لكن صباحًا من تلك الصباحات المختلفة، جاءت الميليشيات كظلّ ثقيل، تحمل في خطواتها الخوف والخراب، وتوقظ في النفوس غريزة الدفاع الأولى: البقاء في تلك اللحظة، لم ينتظر أحد أوامر من سلطة أو توجيهًا من قيادة، لأن أبوقمرة لم تكن تحرسها ثكنة عسكرية ولا حامية نظامية.. كان فيها فقط رجال أنهكتهم الأرض ونساء يعرفن معنى الغياب حين يخرج الأب أو الأخ ولا يعود. ومع ذلك، لم يهربن.. حملن ما توفر من سلاح، وأغلقن الأبواب في وجه الرعب، لا ليحتمين، بل ليحمين.

*كانت الصورة صادمة للعالم: نساء دارفوريات يقفن في وجه مليشيا مسلحة مدربة.. لم يكن المشهد استعراضًا، بل ضرورة وجود.. في لحظات معدودة، تلاشت الفوارق بين (المرأة)و(المقاتل)، بين (البيت) و(الجبهة).

*تحولت الأم إلى حارسة، والزوجة إلى مقاتلة، والفتاة إلى عينٍ ترصد وتبلغ وتنبه.

*في روايات شهود العيان، تكررت الجملة نفسها: (النساء كنّ في المقدمة)

لم يكن ذلك شعارًا سياسيًا، بل واقعًا ميدانيًا. نساء أبوقمرة لم يدافعن عن قرية صغيرة فحسب، بل عن حقٍّ رمزيٍّ في أن تكون المرأة شريكة في صناعة القدر، لا شاهدة على مآسيه.

*مني أركو مناوي، حاكم دارفور، التقط جوهر الرسالة حين قال: ما شاهدناه في أبوقمرة ليس فقط صمودًا، بل إعلان إرادة.. لقد أثبت أبناء دارفور وبناتها أن الدفاع عن الأرض والكرامة لا يُقاس بعدد البنادق، بل بصلابة الوعي ووحدة الهدف.

*كلماته بدت كأنها اعتراف رسمي بدور ظلّ مهمّشًا طويلًا في أدبيات الحرب والسلام: دور المرأة حين تتحول من ضحية إلى درع.

*فما فعلته نساء أبوقمرة هو إعادة تعريف لمعادلة القوة في مجتمعاتٍ أنهكتها الصراعات، وكسرت الصورة النمطية للمرأة ككائن ينتظر الحماية، لا كصانعةٍ لها.

*لكن القصة لا تتوقف عند مشهد البنادق.. في أبوقمرة، كانت البطولة تبدأ من المطبخ، من تلك الأم التي خبأت أبناءها خلف الأبواب، ثم خرجت لتواجه المهاجمين كي تمنحهم فرصة للحياة.

*في القرية الصغيرة، تداخلت الأسطورة بالواقع. يُقال إن بعض النساء كنّ يرددن الأذكار وهنّ يطلقن الرصاص، كأنهن يخلطن بين الإيمان والغضب، بين الصلاة والقتال، في لحظة تتماهى فيها الحياة والموت.

*تلك التفاصيل الصغيرة، غير المدونة في التقارير، هي ما يمنح المشهد معناه الإنساني. فدارفور التي أرهقتها الحروب والقبلية والانقسامات، وجدت في أبوقمرة لحظة نادرة من الوحدة: لحظة صمت فيها الخوف، وتكلمت فيها النساء بلغة الكرامة.

*وما يميز هذه القصة أنها لم تكن رد فعل فقط، بل كانت فعلًا رمزيًا يعيد تعريف هوية الإقليم. فحين تخرج المرأة من الدور الاجتماعي الضيق إلى فضاء المقاومة، فإنها لا تدافع عن بيتها فقط، بل تعيد صياغة وعي الجماعة حول مفهوم الوطن.

*في قراءة أعمق، يمكن القول إن أبوقمرة ليست مجرد واقعة محلية، بل نقطة انعطاف في ذاكرة الحرب السودانية. لقد أعلنت أن المجتمعات المحلية قادرة على حماية نفسها حين تغيب الدولة، وأن التضامن الشعبي قد يكون أكثر صدقًا من تحالفات السلاح والسياسة.

*اليوم، بعد أن هدأ غبار المعركة، تقف أبوقمرة كرمز يتجاوز حدود الجغرافيا. فهناك، حيث التقت النساء بالقدر، تشكلت قصة جديدة عن السودان — قصة لا تكتبها البنادق وحدها، بل تكتبها أمهات يعلمن أبناءهن أن الكرامة لا تورث، بل تُنتزع، وأن الوطن يبدأ حين ترفض أن تنكسر.

*إن بطولات نساء أبوقمرة تفتح بابًا للأسئلة العميقة.. هل يمكن لدارفور أن تبني سلامها القادم على وعي نسائها؟

وهل يمكن لبلد أنهكته الحروب أن يستعيد إنسانيته من أصوات الأمهات اللاتي اخترن الدفاع بدل البكاء؟.

*ربما تكون الإجابة في تلك الصورة البسيطة التي بقيت في ذاكرة الجميع امرأة دارفورية، ببندقية على كتفها، تقف أمام بيتها وتقول للعالم – هذه أرضنا… ولن نسلمها إلا للسلام.

*كاتب صحفي مصري