آخر الأخبار

العقل الذي تجاهل من علّمه…ضياع البوصلة وانطفاء شعلة النهضة

 

د. الهادي عبدالله أبوضفائر

*كيف لبلدٍ أن ينهض، وقد جعل من أجر المعلّم أدنى الأجور، ومن مقامه في المجتمع أدنى المقامات؟  كيف يمكن لشجرة الوعي أن تنبت في أرضٍ هجرت المورد الأول، ذاك الذي كان يسقي العقول قبل أن يسقي الحقول؟ ليست المأساة في تدني الراتب ولا في بؤس المهنة، بل في ذلك الاختلال القيمي العميق الذي رفع المال فوق الفكرة، والمصلحة فوق الرسالة، والشهرة فوق الإخلاص. في مثل هذا المناخ، يصبح المعلّم مجرد رقمٍ في جدول الرواتب، لا ضميراً يقظاً في جسد الأمة. وحين يجوع المعلم تجوع الفكرة، وحين يُهان مقام الكلمة تُهان الأمة بأسرها.

*لقد تراجع التعليم من مقام الرسالة السامية إلى مجرد وظيفة رتيبة، وتحول المعلّم من صانع للعقول إلى ضحية لسياسات قصيرة النظر، تُغلق عليه أبواب الإبداع وتكبّل يده بالقيود. لم يعد التعليم طريقاً للنهضة، بل صار مخرجاً اضطرارياً لمن ضل الطريق في سباق الامتيازات وفتن السلطة الزائلة.. وهكذا انقلبت الموازين، حتى صار من يُفترض أن يكون قنديل الطريق غارقاً في الظل، ينتظر نوراً يضيء دربه، بينما يمرّ الزمن على رسالته صامتاً، كأنه لم يولد ليرشد أحداً

*وفي وطنٍ يُنعت بسلة غذاء العالم، تجد كلية الزراعة في ذيل القوائم الجامعية، ويُنظر إلى كلية الطب البيطري بسخرية، كأنّ الأرض والحيوان خارج معادلة الحياة.. هذه المفارقة ليست خللاً في السياسات فحسب، بل دليلاً على عطبٍ في الوعي؛ وعيٍ فقد صلته بجذوره، فلم يعد يرى في ثرواته مشروع حياة، بل مادّةً للفخر الجوفاء. إنّ أخطر ما يُصيب الأمم ليس الفقر المادي، بل الفقر في المعنى. فالعقل الذي لا يُدرك قيمة من يعلّمه، ولا يعترف بمقام الطبيب البيطري، ولا يقدّر دور المهندس الزراعي، هو عقلٌ فقد بوصلته، إذ لا يمكن لذهنٍ يزدري صنّاع الحياة أن يبني حياةً تستحق البقاء.. وتلك الأمة التي تُقصي أهل المعرفة والعمل من ميدان التقدير، إنما تُعلن في صمتٍ فادح أنها قد استغنت عن مستقبلها قبل أن تبلغه.

*ولأن الوعي لا يُبنى في قاعة الدرس وحدها، فإن الكلمة المكتوبة لا تقل أثراً عن الكلمة المنطوقة. فالصحفي هو المعلّم الآخر في المجتمع، كلاهما يحرث أرض العقول ويزرع في الناس القدرة على النظر والتفكير. غير أن الصحفي حين يُحاصر بالفقر أو يُغرى بالمصلحة، يُجبر على مجافاة الحقيقة، فيتحوّل القلم من منارةٍ إلى سلاحٍ في يد الجهل. ولذلك يجب أن يكون الصحفي في مستوى أرفع من الظروف، لا تابعاً للسلطة ولا خاضعاً للغواية، بل ضميراً حيّاً يحرس الحقيقة. فالإعلام والتعليم جناحان لطائر النهضة، إن انكسر أحدهما، سقط الآخر.

*إنّ النهضة الحقيقية تبدأ من تلك اللحظة التي نعيد فيها الاعتبار لمن يعلّمنا كيف نفكر، ومن يكتب ليذكّرنا بما نسينا. فالمعلم لا يصنع الأجيال فحسب، بل يحرّر الإنسان من أسر الغريزة إلى فضاء المعرفة، والصحفي الصادق لا يكتب للترفيه، بل ليوقظ الضمير العام من غفوته. ولن تُبنى الأوطان بالمشاريع الإسمنتية ما لم تُبنَ أولاً البنية التحتية للعقل. فالتعليم هو المعمل الأول للنهضة، والكلمة الحرة هي صوتها الحارس. حين نعيد للتعليم قداسته، وللكلمة حرمتها، وللحقيقة كرامتها، يمكن للوطن أن يقف على قدميه دون أن يستند إلى الشعارات.

*ولذلك، لا ينهض وطنٌ يذلّ معلمه ويُرغم صحفيّيه على الكذب.. النهضة ليست قراراً إدارياً، بل لحظة وعي، تُدرك فيها الأمة أن من يُنير طريقها بالقلم أسمى من كل الثروات، لأن المعلّم والصحفي وجهان لضمير الوعي الإنساني. فالحل ليس في رفع الأجور وحدها، وإن كان ضرورة، بل في إعادة بناء المنظومة القيمية التي تضع المعلّم في قمة الهرم الاجتماعي، وتمنح الصحافة شرف الاستقلال عن كل سلطان. فالمعلّم هو صانع السلطة الأخلاقية، والصحفي هو حارسها المعرفي.

*نحتاج إلى ثورة فكرية تعيد تعريف التعليم والإعلام معاً.. لا بوصفهما مهناً، بل بوصفهما رسالتين لبناء الإنسان.. كما يجب أن تتحوّل كليات التربية والزراعة والطب البيطري من الهامش إلى القلب، لأنها تعبّر عن علاقة الإنسان بالأرض، وبالحياة، وبذاته العميقة.

*إنّ النهضة لا تولد من صخب العواصم، بل من قريةٍ نائية يُشعل فيها المعلّم مصباحاً صغيراً في عيون الصغار، ومن حقلٍ يزرع فيه الفلاح حبّة الرجاء في ترابٍ صبور، ومن طبيبٍ بيطريٍّ يسهر على حياة القطيع كما يسهر الطبيب على الجسد، ومن مهندسٍ زراعيٍّ يفكّ شيفرة الأرض ليفتح باب الخصب من جديد. هناك، في الهامش الصامت، تُكتب البدايات الحقيقية للأوطان. فهذه هي البنية التحتية للعقل، التي تسبق كل بنيةٍ مادية وتؤسس للنهضة بمعناها الأعمق، نهضة الإنسان في وعيه، لا في مبانيه. الأمم لا تسقط حين تنهزم في الحروب، بل حين تُطفئ في ذاتها نور المعلّم، وتُخرس صوت الصحفي، وتفقد إيمانها بالقلم الذي يكتب وبالعقل الذي يفكر.