الكتاتيب في جيبوتي: إرث عريق وتاريخ تعليمي مشرف

 

أحمد الشامي / جيبوتي

* مستشار وزير الثقافة والشباب في جيبوتي

منذ زمن بعيد، كان للكتاتيب في جيبوتي دور محوري في بناء المجتمع وتعليم الأجيال. فهي لم تكن مجرد أماكن لتعليم الحروف أو حفظ القرآن الكريم، بل كانت بمثابة مدارس إيمانية، تربوية، واجتماعية ساهمت في تكوين شخصية الأجيال المتعاقبة وزرعت فيهم حب العلم والتمسك بالقيم الدينية. تمتد جذور الكتاتيب في منطقة القرن الإفريقي إلى فترة العهد العثماني، حيث شكلت أولى المؤسسات التعليمية التي اهتمت بتعليم القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة للأطفال، ولعبت دورًا رئيسيًا في تخريج أجيال من العلماء والدعاة الذين ساهموا في نهضة المجتمع الجيبوتي.
لقد كانت الكتاتيب تُعتبر نقطة الانطلاق الأولى للطفل الجيبوتي نحو العلم والإيمان. في زمن لم تكن المدارس الحكومية قد انتشرت، كان الطفل يبدأ رحلته التعليمية بحفظ القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة، وتعلم الحديث الشريف. كان التركيز في الكتاتيب على الجانب الديني والأخلاقي، ما جعلها مصدرًا لتربية النفوس وصقل العقول.
الطلاب في ذلك الزمن كانوا يتعلمون من مصحف جزء “عم”، وهو المصحف الذي كان يُطبع في بغداد بتميزه بلون مائل إلى الأحمر؛ هذا اللون كان يُختار بعناية حتى لا يؤثر على أعين الأطفال أثناء قراءتهم وحفظهم للقرآن الكريم. كان المصحف بسيطًا في تصميمه، لكن قيمته كانت عظيمة كونه النافذة التي أطل من خلالها الأطفال على نور كتاب الله.
كان معلم الكتّاب، أو “الفقيه”، يُعتبر ركيزة أساسية في هذه الرحلة التعليمية. كان يقوم بتدريس القرآن الكريم والحديث الشريف بحب وإخلاص رغم قلة الموارد المادية وصعوبة الظروف. المعلم لم يكن يشترط أجرًا معينًا؛ فقد كان يحصل على أتعابه بحسب إمكانيات أولياء الأمور. في العاصمة جيبوتي، كان الأهالي يدفعون ما يقارب 500 فرنك جيبوتي لكل طالب، أما في القرى والمناطق الداخلية، فكان المقابل يُقدم أحيانًا على هيئة إبل، أبقار، أو حتى ملابس جديدة.
وكان تكريم المعلم عند إتمام الطالب حفظ القرآن الكريم عادةً أصيلة، حيث يُكرم بما يستحق من هدايا رمزية تعبر عن امتنان الأهالي لدوره العظيم. في كثير من الأحيان، كان الطالب يحتفل بتخرجِه بحفل يُقام بحضور الأهل والمعلم، ما يعكس روح الاحترام والتقدير التي سادت تلك الفترة.
لم يقتصر دور التعليم على الرجال فقط، بل كان للنساء العالمات دور كبير في تعليم الفتيات والصبية الصغار. مراكز التعليم النسائية كانت ملاذًا آمنًا ومثمرًا، خاصة للفتيات اللاتي تلقين تعليمهن على أيدي معلمات تميزن بالإخلاص والصبر. هذه المراكز شهدت تخريج أجيال تعلمت القرآن ومبادئ الدين بفضل الجهود الجبارة التي بذلتها النساء المعلمات في ظروف لم تكن سهلة.
رغم المكانة العظيمة التي حظيت بها الكتاتيب لعقود طويلة، إلا أن دورها بدأ يتلاشى في العقود الأخيرة بسبب الإهمال العام وغياب الدعم الكافي لاستمرارها. مع ظهور المدارس النظامية الحديثة، تراجعت أهمية الكتاتيب في المجتمع، ولم يعد الأطفال يتلقون التعليم التقليدي كما كان في السابق. ورغم هذا التراجع، يبقى إحياء دور الكتاتيب أمرًا ضروريًا للحفاظ على هذا الإرث العظيم الذي ساهم في بناء المجتمع الجيبوتي دينيًا وتعليميًا.
إن إعادة إحياء الكتاتيب لا يعني التخلي عن التعليم الحديث، بل يعني دمج التعليم التقليدي مع المعاصر ليكون لدينا جيل يحفظ القرآن الكريم ويتميز بأخلاقه وقيمه، في الوقت الذي يتقن فيه مهارات العلم الحديث. الكتاتيب ليست مجرد ماضٍ يمكننا أن نتجاهله، بل هي أساس متين يمكن البناء عليه لضمان مستقبل مشرق للأجيال القادمة.
لم يكن التعليم في الكتاتيب مقتصرًا على الحفظ فقط، بل كان له أثر تربوي عميق. القرآن الكريم كان يُهذب أخلاق الطفل ويُضيء قلبه بنور الإيمان. كان التلميذ يتعلم الصبر والاجتهاد، ويعيش لذة الحفظ التي كان يُتوج بها بعد تعب وجهد كبير.
كما يقول أحد الذين تعلموا في الكتاتيب: “لم أجد لذة حفظي حتى أتقنت، ولم أتقن حتى تعبت تعبًا نسيته حين ذقت لذة قراءتي للقرآن متى شئت قائمًا وقاعدًا وعلى جنب”؛ فهذا التعب كان نابعًا من حب القرآن الكريم والشوق لتلاوته بإتقان.
إن الكتاتيب جزء من الهوية الجيبوتية، وجزء من تاريخ عريق لا ينبغي أن يُنسى. لقد كانت هذه المؤسسات التعليمية رمزًا للإخلاص والبساطة والالتزام. دورها في بناء شخصية الإنسان الجيبوتي واضح وجلي، وأثرها الإيجابي امتد لعقود طويلة. واليوم، ونحن نرى تلاشي دور الكتاتيب تدريجيًا، ندعو إلى إحيائها ودعمها من جديد لتعود منارة تعليمية تضيء قلوب الأجيال القادمة بنور القرآن الكريم وأخلاقه.
إن الجمع بين أصالة الكتاتيب وحداثة التعليم يمكن أن يحقق توازنًا رائعًا، يُمكن أطفالنا من التمسك بدينهم وقيمهم في ظل تحديات العصر. نسأل الله أن يبارك في مسيرة العلم والتعليم، وأن يُنير قلوبنا بنور كتابه العظيم، فهو السبيل إلى صلاح المجتمع ورقيه.