آخر الأخبار

لآلئ بأقلامهم (17).. (لاعب الشطرنج ) للكاتب النمساوي ستيفان زفايغ (س)

صمت الكلام

فائزة إدريس

*كل حركة كان يدور حولها سجال محموم أكثر من التي سبقت، وكان واحد منا دائماً يمنعنا في آخر لحظة قبل أن تتفق أن نعطي إشارة العودة لتشينتوفيتش ليعاود فتح النقاش. هكذا وصلنا للحركة السابعة عشرة؛ إذ ينا نتفاجاً بوضع يبدو في صالحنا تماماً، فقد نجحنا في التقدم ببيدق على المربع قبل الأخير على عامود c، وما علينا إلا أن ندفع به خطوة واحدة على العامود نفسه، حتى تستعيد قطعة الوزير. مؤكد أننا لم نشعر بالارتياح حيال هذه الفرصة التي بدت مغرية أكثر من اللزوم، وساورنا الشك عما إذا كانت هذه الميزة التي بدت من إنجازنا ليست إلا طُعماً قدمه لنا تشينتوفيتش وهو يرى الوضع بعين أثقب بالتأكيد. ومع كل التباحثات والنقاشات لم نتوصل لما كان مخفياً، فقررنا أخيراً قبيل انتهاء المهلة أن نجازف بالخطوة، وكاد ماكونر أن يحرك البيدق لينقله إلى المربع الأخير، إذا برجل يمسك ذراعه ويهمس في أذنه بصوت خافت ومُلِح: (بالله عليك إياك أن تفعل).

*التفتنا جميعاً تلقائياً لنجد سيداً في الخامسة والأربعين تقريباً، وجهه رفيع حاد الملامح، كنت قد صادفته من قبل على الممشى، ولفت نظري شحوب بشرته البيضاء كلون الطباشير، يبدو أنه اقترب منا في الدقائق الأخيرة، ونحن منصبون بكل تركيزنا على حل المعضلة. ولما شعر بنظراتنا إليه أضاف مسرعاً:لو حركتم البيدق الآن على مربع c1 لاسترداد قطعة الوزير سيهاجمكم هو في الحال بالفيل، فتهاجمون بالحصان، ولكنه سيكون خلال ذلك حرك البيدق على d7 ليهدد القلعة، وحتى لو هددتم الملك، ستخسرون وسيتم القضاء عليكم بعد تاسع أو عاشر حركة. إنها أشبه بنفس الدور الذي لعبه ألياخين ضد بوجوليوبو في مسابقة مدينة بيشتاني الكبرى سنة 1922

*رفع ماكونر يده عن القطعة وهو ينظر للرجل بدهشة لا تقل عن دهشتنا كأنه هبط من السماء كالملاك على حين غرة ليمد لنا يد العون. من يستطيع أن يحسب النهاية بمقدار تسع حركات لا يمكن إلا أن يكون محترفاً من الطراز الأول، وربما منافساً في بطولة، وأيضاً في الطريق إليها. ظهوره المفاجئ وتدخله في لحظة حاسمة بهذا الشكل كاد أن يكون إعجازاً. ماكونر، هو أول من استرد تمالكه، سأله هامساً وهو منفعل: بماذا تنصح إذن؟

*لا تتعجل التقدم مبدئياً راوغ خصمك؛ بحيث تتفاداه، خاصة الملك، لا بد من سحبه من خط الخطر في g8 إلى h7 غالباً ما سينقل الهجوم على الجانب المقابل فتصدونه بالقلعة من c8 إلى c4 ، ستكلفه حركتين وبيدقاً، وبذلك تفوقه. حينئذ سيقف بيدق أمام بيدق، ولو التزمتم بخط دفاعي سليم ستصلون للتعادل الموقف لا يسمح بأكثر من ذلك.

*مرة أخرى أصابتنا دهشة كبيرة، سواء من دقته أو سرعة حساباته المبهرة؛ كأنه يقرأ الحركات من كتاب مطبوع, أن تتاج لنا يفضل تدخله فرصة التعادل مع بطل عالمي ظنناها بعيدة المنال، كان له مفعول السحر. تزحزحنا جميعاً على جانب لنفسح له برؤية أوضح على الرقعة. مرة أخرى سأل ماكونر ليتأكد: (هل أنقل الملك من g8 على h7؟

.(نعم المراوغة، المراوغة)

*نفذ ماكونر الأمر مطيعاً وقرعنا على الكوب. أتى تشنتو فيتش بخطوته المتئدة المعتادة إلى الطاولة وتفقد الرقعة بنظرة واحدة، ثم سحب البيدق على جناح الملك h2 h4 ، كما تنبأ منقذنا الرجل المجهول بالحرف الذي همس على الفور منفعلاً: (اطلع بالقلعة إلى الأمام، إلى الأمام من c8 إلى c4 ، سيضطر أولاً أن يحمي البيدق لكن لن يجديه نفعاً ستضربونه بالحصان d3 -e5 دون أن تعيروا بيدقه هذا أي اهتمام، وبذلك يعود التوازن بينكما مرة أخرى بالهجوم لا الدفاع

*لم نفهم شيئاً من كلامه كما لو كان يتحدث باللغة الصينية. لكن ماكونر المفتون به نفذ ما يقوله دون تفكير.

*مرة أخرى قرعنا على الكوب لتشينتو فيتش. وللمرة الأولى قرر عدم التعجل وظل متأملاً للرقعة باهتمام شديد، حتى التصق حاجباه ببعضهما. ثم نفذ بالضبط الحركة التي وصفها صديقنا الغريب وراح ينسحب، لكن قبل أن يذهب حدث شيء جديد وغير متوقع. نظر تشينتوفيتش يتفقد صفوفنا كأنه يريد أن يعرف من أين هذه المقاومة اللدودة المفاجئة.

*في تلك اللحظة هاجت نفوسنا بلا حدود. كنا حتى الآن نلعب دون أمل حقيقي، ولكن فكرة أن نكسر استعلاء تشينتو فيتش البارد جعلت النار تجري في عروقنا. وجاءت على الفور تعليمات صديقنا الجديد للحركة التالية، وقرعت الكوب بالملعقة وأصابعي ترتجف ليعود تشينتوفيتش.

*وهلت أولى بشائر النصر، تشينتوفيتش الذي لم يلعب إلا واقفاً حتى الآن، تردد ثم تردد ثم جلس أخيراً على المقعد. جلس ببطء وتثاقل، وهكذا قُضي مبدئياً على استعلائه الجسدي علينا. لقد أجبرناه على النزول إلينا وإن كان على المستوى المكاني فحسب. (يتبع)

نهاية المداد:

يصبح المرء وحيداً، إن كان يعرف أكثر من الآخرين

(كارل يونغ)