(أمــــونة أشهرت موتها بوجهـــي)
عود مرا _ سعادة عبدالرحمن إبراهيم
كنا حال فقدنا عزيز علينا، نحرم أنفسنا من أي مظهر للفرح ونرهق إحساسنا بهذه الكآبة التي لاتنفك تصبغ علي سحنتنا لونها الباهت الملامح،(إن ماتت في الفريق ساكت مِـــريَّــة ذليلة لازم يرفعوا العرس الدخلتو الليلة ).
نُحرم من كل جديد إلا الصباحات المتوالية الرتيبة المعفرة بالحزن، حتي صباح العيد نحرم من (خبيز العيد) و الحلوى، لولا أن مايأتينا من الجيران يكون أكثر مما كانت تعده أمي اصلا في كل سنة وقد تفوق كميته نصيب أي بيت.
وعندما كبرت قليلا صرت ابكي صبيحة كل عيد بمرارة لا اعرف لها سببا! وانا حينها لم اطـرق أبواب الحياة الموصدة بعد! كان طريقي مرسوم وهدفي محدود : المدرسة وغسيل المواعين. وكانوا يضحكون علي بقولهم: (باذن الله السنة الجاية عريس) هكذا كان في اعتقادنا أو في حقيقة الادأمر هكذا كانت تدور مشاكل البنات لا اكتر؛ وأرُّد في سري : ( اقلها ارتاح من قش الحوش وغسيل الهدوم والعدة) وكانت امي تبتسم خفيةً و في خبث.
لا لأن من فقدنا لايساوون حزننا، بل و لأننا لو امضينا عمرنا ماتبقي منه لن نخرج من هالة الحزن ، فهناك من لم يستطع أن يتجاوز حزنه و بدأ كأنه خرج عن دائرة الحياة ؛ لكننا وبدعم الأمل وآخرون لا تسير الحياة بدونهم؛ ولهم حق أصيل بفرحنا؛ تجاوزنا كل فقد، ورممنا كل زوايا هدمتها الأحزان في نفوسنا، اصبحنا نعُـب من لحظات الفرح بلهف نفرح بصخب ونضحك لأتفــه المواقف كأنما نريد ان نثبت لأنفسنا إننا لاذلنا أحياء.
بكيت ليلة عدت الى داري حتى اشرقت الشمس وخرجت وهم نيام اتلقَّـفُ كل من بالطريق في أسى ومواساة وشوق وحنين حتي العابرون في حياتي والطريق…
أمضيت النهار كله لايعرف اهلي سوى إني خرجت لمواساة كل من بالحي، بيوت لم أدخلها منذ طفولتي، جيران قرب، أستمع لذات النسخة من روايتهم عن معاناتهم أيام الحرب، كأنما بجوفهم أذىً أرادوا ان ينفثوه عن صدورهم فيرتاحوا، وأحيانا كنت ابقى لدقائق معدودة، قليل من الكلام وكثبر من لاشئ ، تنهمر الدموع كأنما اسقي بها دربا للود قد اجدبته و قطعته الأيام، ثم أخرج في لهفة مشتاق ولكن لملاقاة الأحزان، لعمري كيف اجتمعت طاقتي بالحزن مع لهفتي وفرحتي بلقائهم ومواساتهم! .
من منا هنا في هذا (المركب) لم تفقده الحرب عزيز أو قريب أو حبيب! وأنا لي فيهم حاصل جمع كل من فقدوا.
عندما رجعت لأهلي لم يسمح لي جَلَـد بعضهم ورغبتهم المُلِّحة في تجاوز احزانهم من أن أودي طقوس حزني بكامل عمقها لأشفي قلبي. اكتفيت( بالفاتحة)*١ وضممت أغلبهم في صمت طويل كأنما اردت أن أوصل قلبي الى قلبهم ولأسكب مافيه من أســى ودمعات حــرى بداخله.
وهناك وعد باللقاء اردت ان اعد له نفسي و اهيئ له خاطري ذهبت في كامل حزني ومهيب خطوي المتثاقلة ؛ ومن بين آثار كل ذلك الخراب والأيدي التي امتدت لتزيل الانقاض عن الشوارع والبيوت التي هجرها أهلها ، إلا أن ما بدا لي اني لم اكن وحدي من يتهيب الاقتراب من هذا البيت! يبدو ان الجميع يتحاشى الاقتراب من هذا الباب! ارتفع العشب واقحلت وصوَّحت الأشجار لاتخطئ عينك ما ألَّم بهذه الدار (الأمينة) من بؤس جراء فقده لأهله اثر القصف الذي ازهق الفرح والحياة وازهق وعود واشواق اللقاء والعودة واغتال (امونة بت اللمين) واخويها وعم (اللمين).
وقفت ببابهم طرقت مرتين وثلاثة وناديت : (امونة.. امونة).
على كثرة الحكاوي ولقاءات المودة والمحبة والعيش والملح والبن الا اني احسست ان هناك شئ اخير لم اقله (لأمونة) هناك قصص وحكايا لم نحكيها بعد، فمن اسدل الستار عن حكاوينا؟ ولكل منا وفي جعبته الكتير من حكاوي الغربة وروعات الحرب، من انزل الستار! ولمّا ننته بعد! . تركتها (امونـة) مورقة مخضرة كشجرة الياسمين، تضوع ندىً وتفوح محبًـة.
(امونة) كانت من اكتر الوجوه التي تسر العين بعد الغياب وتنفض عن القلب ماعلق به من وعثاء الغربة (امونة) فاجأتني عندما اشهرت الموت بوجهي!
وخرج الجيران علي صوتي في ذهول وبكيت نصف مامعي من حزن ومابقي منه لعمري او لحين لقاء .
وهكذا حتي انتصف النهار وانا كنت اردد ذات الوعد ( اروق شوية واسلِّـم علي الناس ثم اعاود للونسة) وما اكثرهم!.
سرى في الحي خبر عـودتي حتي ان بعضهم قد لحق بي في بيت الجيران لملاقاتي وبذلك قد اختصروا علي المزيد من الزيارات، واهم شي (الشوفة) وانكم بخير واعزي من اعزي منهم في فقيدهم.
وافلحت خلال اسبوعين في زيارة كل من بالحي
من كان منهم ببيته او غادره وعاد الآن بعد انتهاء الحرب محملا بالكثير من القصص الحمد لله حارة بطولها لم احتاج ان اعـرِّف عن نفسي من اكون؛ ولم تبد الدهشة علي من زرتهم ولم يسبق لي ان وقفت ببابهم حتى، وكان لذلك اثر كبير عندهم و كنت اضحك وابكي واحيانا اكتفي بالقليل من عبارات المواساة والحمد بالسلامة.
وانا امر بطريقي احسست ان الطرقات قد اتسعت جدا وان المسافة من بيتنا للباب الذي قبالته قد اصبحت كبيرة
انا متاكدة! فكم مرةٍ اخذت (المقاشيش)*٢ وكنست هذا الشارع من الباب للباب كل اسبوع تقريبا واكيد لم يكن بهذا الطول ام ماذا؟؟
ولكن الحال الملموس يقول انها اصبحت اقرب وعلي قلب رجل واحد واحسست ان هناك عمر بحاله قد فاتني بينهم، اصبحوا كالجسد الواحد لا البيت الواحد فحسب .
وجدت البيوت اكثر ضجيجا والابواب مشرعة كما القلوب؛ يبدو انها الحرب والشدة التي صهرت القلوب واخرجت انقى مافيها. لم تكن الطرقات
انما هي الحياة قد اتسعت فصولها واشرعت نوافذها علي باحات الأمان وان القلوب قد نفضت عنها صدأ الاحزان، فأنارت عتمة الارواح وعبَّـدت طرقات الامل.
____
الفاتحة : سورة الفاتحة السودانيون يقفون قبالة بعضهم في العزاء افرادا او جماعة مع اهل المتوفي ويرفعون ايديهم يقراون شورة الفاتحة علي روح الميت
المقشاشة : حزمة من السعف تكنس بها الارض