نبض النص.. نبض الأرض  قراءة حول أسئلة الهوية في نص بين مريم الأخرى و المجدلية (2 _ 3)

تلاوين

 عبد اللطيف مجتبى

نواصل ما انقطع من قراءة لنص بين مريم الأخرى و المجدلية وكنا قد تناولنا في الجزء الأول مقدمة لهذه القراءة التي تناولت فيها ما أسميته “فتنة الكتابة”و بالمقابل عملية “فتنة الاستجابة” ثم ترض فيها لتسمية هذه القراءة بالإضافة إلى أني قمت بتشريح النص إلى سبعة مراكز أو لحظات نابضة وقد تناول الجزء الفائت حسب ترتيب النص ثلاث لحظات وهي لحظة المخاض و لحظة الميلاد ثم أخيرا لحظة التساؤل . فلنبدأ إذن هذا الجزء :

4- لحظة المجد والفخر والتاريخ : وهو مركز الارتكان إلى الذات الجمعية / الحضارية وتاريخ الأمجاد الطويل والافتخار بماضي تليد في إشارات واضحة من خلال استخدام الضمير(نحن) بشكل متعمد:

( وعلى هذي السفوح المطمئنة *نحن* قاتلنا سنينا و اقتتلنا

*نحن* سجلنا التآلف في انفعالات الأجنة ) وفي هذا المقطع يرتفع ثيرموميتر فتنة الكتابة ليُبرز لنا إحدى المقولات الشاهقة الارتفاع وهي (نحن سجلنا التآلف في انفعالات الأجنة) إذ تمثل مركز الافتخار بتلك الذات النحنوية المحتشدة في تاريخها.

ثم ما يلبث في نفس المركز أن يرتد إلى حاضره المرير مخاطبا أرضه ،الأنثى ،ذاته الحاضرة المتجلية :

(يا هذه البنت التي تمتد في دنياي سهلا وربوعا و بقاع

ما الذي قد صب في عينيك شيئا من تراجيديا الصراع ؟)

وكما يبدو أن النص قد عاد بنا إلى مشاهدين؛ الأول في التاريخ، والآخر في الحاضر ليشكل المركز ونبضه المزلزل مقابلة بين هذا الراهن الشائك التراجيدي الحزين وماضٍ تليد.

وما أن انتهى النص من لحظة الفخر تلك ، حتى عاد بنا مرة أخرى لعوالم التسآل فيما يشبه العودة إلى الواقع بعد تلك اللحظة المفعمة بالفخر و الاعتداد بالذات متوسلا بالنداء لتلك الأنثى المتجذرة في التفاصيل زمانا ومكانا: ( يا هذه البنت التي تمتد في دنياي سهلا وربوعا وبقاع) عائداً إلى مركز السؤال في مقابلة بين واقعين: (ما الذي قد صب في عينيك يئا من تراجيديا الصراع).

5- *لحظة الوجد* : ثمة حبل سُرِّي يستقي منه هذا المركز أمواج الحنين العابرة و الوجد: ( والمدى يمتد وجدا عابرا هذي المدينة )

متوسلا به للسؤال عن الكينونة و الوجود و الهوية : (خبريني هل أنا أبدو حزينا

هل أنا القاتل والمقتول حينا والرهينة

هل أنا البحر الذي لا يأمن الآن السفينة).

موجات عارمة من التسآل بحثا عن هوية أو ماهيةٍ ما . ثم يغادر سريعا هاربا مرة أخرى من بؤرة هذا السؤال بحثا عن انزواء ما أو اختباء ما ،يبدو مستحيلا فيضرب صفحاً عن ذلك ليبحث عن دفئ في هذه الغربة المُمِضَّة الموحشة علَّها تنطفئ بلحلظة حميمة ولو مرة في كل عام : (خبئيتي بين جدران المسام

قبليني مرة في كل عام )

مبررا ذلك بالتوق إلى تشكُّل جديد وبدايات جديدة لكينونة أخرى وهو عنده غاية المهارب التي يصبو إليها،عوالم ودنيوات تتشكل حسب المبتغى و الإرادة هوية جديدة مربوطة علامياً بلون محدد وهو “البنفسج” المتعارف عليه ثقافيا بأنه لون الحب مشيراً بذلك إلى عالم جديد وحياة جديدة الذي يتوق إليه :

( فأنا أشتاق أن أولد في عينيك طفلا من جديد

ارتدي اللون البنفسج أعتلي شكل الهوية)

6- لحظة التيه و الضياع : ربما يصلح هذا المركز بنائيا خاتمة للمقطع الفائت كما يمكن أن يعد كذلك مفتتحا مهما للمقطع الذي يليه إذ يشكل قنرة بينهما وهو :

(ضيعتني مريم الأخرى سنينا في انتظار المجدلية)

حيث يتجلى هنا سؤال البحث عن الحقيقة على المستوى الوجودي متمثلا سميائيا في الإشارة إلى مريم الأخرى الزائفة والتي ربما تكون ( سالومي في قصة يوحنا المعمدان ) أو غيرها من الأخريات الزائفات، وتلك الأم العذراء الأصل .وفي الأمر الكثير من اللغط بين مصادر الدين المسيحي و الذي هو محسوم تاريخيا في القرآن الكريم وهو أن هناك مريم واحدة و هي العذراء المعروفة بمريم بنت عمران عليها السلام.

دلالياً راوحت هاتين العلامتين بين الزيف و الأصل لتشيران إلى عظم مأساة البحث عن غاية ما، وانتظار تحققها في غير مظانها المرجو أن تتحقق فيها ، مما يؤكد فكرة الضياع التي استُهِل بها هذا المقطع القصير المحتشد.

7- لحظة النداء و الرجاء و التمني :من هنا يتبدى للقارئ أن النص قد وصل إلى ذروته بتلك الآهات المدوية مقرونة بالتمني والرجاء الذي يشير إليه حرف التمني (لو) الذي يحاصره التأوه من كل جانب:

(آه لو تأتين آه من عميق الموج من صلب المياه،

كالرحيل كالترقب و انتظار المستحيل)

وفي هذا المركز أعادنا النص إلى شيئ من زمن تلك البدايات الصادمة حيث الترقب وانتظار المستحيل إلا أنه عاد هنا محملا بالموج والمياه بدلا عن تلك البحار التي اتخذت شكل الفراغ .

تتجلى في هذا المركز النابض بالرجاء و التمني ملامح مغادرة إلى عوالم ترقب جديدة وحالة انتظار لتأتي تلك الأمنيات طواعية مثلما يأتي إليه الرحيل وحالة الترقب و الانتظار غير المرغوب فيها .

يتبع ..