نصر وشهادة

بعد .. و .. مسافة

مصطفى ابوالعزائم

  *والله مع كل هذه الفرحة الكبرى العظيمة ، في هذا الشهر الكريم المعظم بإسترداد رمز سيادتنا الوطنية ، القصر الجمهوري بالخرطوم ، الذي شهد ما شهد من أحداث منذ لحظة إنشائه ليكون قصرا لحكمدار السودان، مرورا بمقتل غردون باشا في أول ثورة شعبية ضد المستعمر،  وحتى غزو البلاد في سبتمبر 1898، ثم رفع علم البلاد بألوانه الثلاثة (الأزرق والأصفر والأخضر) الذي قامت بتصميمه الأستاذة الراحلة السريرة مكي الصوفي _ رحمها الله _ في ذلك اليوم الأغر الأول من يناير 1956م ، على سارية القصر بيد الزعيم الراحل إسماعيل الأزهري، وإلى جانبه أحد أعظم رؤساء الوزارات في بلادنا ، الراحل الأستاذ محمد أحمد المحجوب.

  *أقول أنه ومع كل تلك الفرحة العارمة التي غمرتني، وجدت دمعة مكتومة تكاد تطفر من عيني، فقد رحل زملاء وأصدقاء اعزاء في الجمعة الرمضانية المباركة، فريق فدائي من أهل الإعلام كانوا جنبا إلى جنب مع المقاتلين الأشداء (أسود الحارة) أبناء القوات المسلحة السودانية، لكنني منعت تلك الدمعة من أن تخرج في يوم الفرح العظيم ، لأن ما تم كان كبيراً وعظيماً، إستحق تلك التضحية.

  *لم أجد ما أهدئ به الإنفعالات المتداخلة سوى مقال للزميل الأستاذ خالد النور، يحكي فيه عن الراحل فاروق الزاهر، وهو رمز لكل من رحلوا ، رحمهم الله جميعا رحمة واسعة وعفا عنهم وغفر لهم واسكنهم فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (إنا لله وإنا إليه راجعون).

 فإلى ما جادت به قريحة خالد النور

عن (فاروق الزاهر) أحدثكم

     بقلم : خالد النور

  *رسم لطريقه خارطة ووضع لنفسه مكانة ، ترك الباب موارباً والكتاب مفتوحاً ليصل به الى قلوب الناس ببساطة وأريحية دون تكلف او كبير عناء, حشد من القيم والسماحة والنبل تمثلت في زهرة شبابه الناضر الملئ بالنشاط المستمر والمواكبة التي لا تنتهي.

*ترجل (فاروق الزاهر) القادم من أقاصي غرب السودان في أكرم معركة وطنية لم يشهدها السودان في العهد القريب والبعيد، من داخل القصر الجمهوري شهيداً، بعد حياة ملئية بالحيوية والعصامية والبذل والعطاء.

*أيام الجامعة كان كبيرنا فهماً وإدراكاً ومعرفة بفصول الدنيا وتفاصيل الحياة .. يربط الوشائج ويحل العقد ويبسط المودة بين الناس بالحكمة والموعظة الحسنة .. عاش كالنحل يقطف الزهور لينثرها بين الزملاء محبة وإخاء ومودة (عصاميته) جعلته يجيد مدابرة الحياة ومسايرة قساوتها ، فعمل (عجلاتي) و(منجد) – بضم الميم – للمراتب ، و(ساعاتي) ومزارعاً وغيرها من الأعمال الحرة والتي دخلها من باب الرزق الحلال.

*ضل طريقه الى (مهنة المتاعب) لمزيد من إنهاك جسده النحيل .. لا يأكل كثيراً ، قليل الحديث.. كثير الحكم .. نظيف (تأكل في ملابسه) .. عفيف تشتم فيه (رائحه الفقر) .. وكريم يعطي ويمنح ويتصدق.. لايريد حظاً ولا طمعاً في الدنيا ، المال عنده سرعان ما يتلاشى لأنه يعتبر أن هناك من هو أحوج منه.

*عن طريق (فاروق) دخلنا بيوت الزملاء في الخرطوم وسافرنا في رحلات عمل وزيارات إجتماعية للمدن والأرياف يقوم بترتيبها بكل سهولة ويسر .. يبسط المواضيع حد اليقين بأن الأمر (مقضي).

*لم أره يوماً عابساً أو شاحباً في وجه الحياة رغم قساوتها.. يقابلك هاشا باشا وهو يحمل هموم الدنيا والوطن والمواطن.

*عندما التحق بالتلفزيون القومي كان حريصا أن (يجرنا) الى الحوش بجانبه وبالفعل اقنع عدد من الزملاء.. لكن حبي لمهنة الصحافة جعلني لا ألبي رغبته.. ورغم ذلك ظل يلاحقني من حين لأخر يعطيني مواضيع للكتابة يفتح الأبواب المغلقة امامنا لمزيد من العمل الإعلامي المرهق .. حقق مقولة أن الصحافة (مهنة المتاعب) لكنه كان لايمل ولم يغمض له جفن قبل تحقيق مقصده  يثني علينا أحياناً ويعاتبنا كثيرآ لعدم تناولنا لبعض المواضيع في وسائلنا الإعلامية ، ثم يعاود اللعب على (فتح مواضيع جديدة) يسد بها الفراغات حتى لا تملى من الجانب الأخر.

*رجل تستفيد من ضحكته وعبوثه وفرحته وغضبه ونظرته وتستفيد حتى من عبوره أمامك .. قليل الكلام لكن نظرته ثاقبة تصيب الهدف .. حياته كلها تفاصيل تحكي عن قامة تمشي على قدمين.

*يحدثك حديث العالم العارف المستنير، ويستمع اليك كانه لم يقرأ حرفا ولم ينهل من المعرفة ، ثم يخرج لك بالحكمة التي تقلب الموازين رأسا على عقب.

*شجاع ووطني غيور.. متمكن في دروب السياسة اللعينة,يصيب مقصده في مقتل حين يوجه سهام الوطنية واللعب النظيف في مرمى الخصم, وأكاد أجزم أن (فاروق) لم يرتاح طوال فترة الحرب ذهاباً ومجيئاً .. بل كان ذلك خصماً على أسرته الصغيرة من أجل تقديم مادة أو برنامج إعلامي يطمئن به المواطن ويهزم به العدو ويصيب فيه الهدف . حدثني خلال الحرب أنهم لايمكن أن يفرطوا في شبر من الوطن لمليشيا مدعومة من الخارج.

*عاش حياة مليئة بالبساطة واليقين دون صخب، ورحل بصورة إستثنائية وهو يحمل ذخيرة من الإيمان والتقوى بهدوء كما عاش.

*فيا أيتها الدموع كفى عنا فقد ذهب فاروق شهيداً  ودعونا ندعو له بالرحمة والمغفرة وأن يسكنه في جنات الخلد مع الصديقين والشهداء

(إنا لله وانا اليه راجعون)

وﻻحول وﻻقوة اﻻ بالله