بين الصحافة والسياسة

بعد .. و .. مسافة

مصطفى ابوالعزائم

  *قبل يومين كنت داخل قاعة جمعية إسناد في القاهرة ، وقد لمست جهودها عن قرب ، من خلال ما سمعته من الأمين العام للجمعية الأخت الكريمة الدكتورة أميرة الفاضل ، ومن خلال تقارير ووثائق إطلعت عليها ، وهذا موضوع آخر سنفرد له مساحة قادمة بإذن الله تعالى.

  *مناسبة ذلك اليوم الذي جمع فأوعى من قبيلة الصحافة والإعلام كان بمناسبة تدشين كتاب الأخ والصديق العزيز الأستاذ صلاح عمر الشيخ ، والموسم ب(صلاح عمر الشيخ .. بين الصحافة والسياسة) وهو سفر قيم، نقل فيه الأستاذ صلاح جزءاً من تجربته في عالم السياسة، وبلاط صاحبة الجلالة الصحافة كما يحلو لنا ان نسميها، وهي تجربة ثرة وغنية ، جعلتني بعد أن فرغت من قراءة الكتاب – من الغلاف إلى الغلاف – أهاتف الكاتب شاكراً له رحلة الإمتاع والمؤانسة ، خاصة وإن الكثير مما جاء في الكتاب، كنا نعيشه عن قرب، ونحن نقول في أمثالنا : (الزول بونسو غرضو) وقد وجدت تجربة الأستاذ صلاح قبولاً كبيراً لدى عامة أهل الصحافة والإعلام، بحسبان أن هذا الكتاب يعد إضافة حقيقية للمكتبة السودانية التي تفتقر إلى الكتب التي توثق للصحافة السودانية، إلا القليل، مثل ما كتب أساتذتنا الأجلاء بشير محمد سعيد، محجوب محمد صالح، ويحيى محمد عبدالقادر، محجوب عمر باشري، ومحمود ابوالعزائم، رحمهم الله جميعا، وبعض الكتب الأكاديمية التي كانت بحوثا علمية أكثر منها وقوفا عند التجارب الذاتية، أو رؤية تاريخية من وجهة نظر معاصرين لها، ممن عملوا في بلاط صاحبة الجلالة.

  *في تقديري الشخصي، إن الصحافة هي تسجيل لوقائع العصر، وهي تعبير عن حركة المجتمع ، غير التعريفات العلمية المعروفة المتداولة.

  *قلت لأخي الأستاذ صلاح عمر الشيخ ، أنني كنت اتمنى ان يضمن كتابه القيم ، تجربته في عمله داخل الإتحاد العام للصحفيين السودانيين  وهي تجربة مهمة وضرورية، خاصة وإن تجربة العمل النقابي الصحفي لم يوثق لها بأي قدر ، رغم الأدوار العظيمة والكبيرة التي لعبها الصحفيون واتحاداتهم أو نقاباتهم على مر الحقب السياسية في عمر السودان.

  *يتحدث الجميع عن أدوار السياسيين في الإستقلال ، ولا يشيرون من قريب أو بعيد، للدور الكبير والمهم الذي لعبته الصحافة.

  *وقائع التاريخ تقول بأن عدداً من نواب الحزب الوطني الإتحادي، أخذوا يتململون داخل البرلمان عقب تنفيذ إتفاقية 1953م، بنسبة قاربت الثمانين في المائة ، عندما إقترب موعد الإستفتاء على (الإستقلال) أو (الإتحاد مع مصر )، وقد اجتمع النواب حسن محمد زكي، الوسيلة الشيخ السماني، ومحمد كرار كجر – رحمهم الله جميعا – وتداولوا حول أمر الإتحاد مع مصر، حسب ما سمعت من الوالد الكريم رحمه الله، ووفق ما ذكره لي أحد أولئك النواب ، وهو الراحل حسن محمد زكي، وقد خلصوا إلى أنه ليس من حقهم ولا من حقّ غيرهم، أن يقرروا مصير السّودان نيابةً عن الأجيال القادمة ، لذلك عليهم أن يحصلوا على الإستقلال أولاً، ليقرّر السودانيّون بعد ذلك الأتحاد مع مصر، أو عدمه.

*بدأ نشاط النّوّاب الثلاثة وسط أعضاء الهيئة البرلمانية ، فكسبوا ثقة أحد أكثر أعضائها نشاطاً وحيويةً وتأثيراً، وهو الراحل المقيم محمد جبارة العوض ، وهو رجلٌ تاريخي، ويُذْكَر أنه قام بشحن قطار كامل من رجال كسلا والشرق للمشاركة في ثورة أكتوبر عام 1964 م ، لكن هذه قصة أخرى، نعرض لها في مقبل الأيام إن كان في العمر بقيّة.

*قاد النائب محمد جبارة العوض، مع النّوّاب الثلاثة الإتصالات السرّيّة، ونجحوا في إستمالة نوّابٍ آخرين إلى دعوتهم تلك، التي سمع بها البروفيسور محمد عبدالله نور، عميد كُلّية الزراعة بجامعة الخرطوم وقتها، وسمح لهم بعقد إجتماعاتهم داخل الكُلّية ، ثم علِم القطب الإتحادي الكبير، مبارك زروق بالأمر فشجّعهم على المُضي فيه، وعلِم (البلدوزر) يحيى الفضْلي بتلك التحركات، فباركها وإنضم إليها ، وعلِم أحد مؤسسي صحيفة الأيام ورئيس تحريرها آنذاك بشير محمد سعيد بالأمر، وهنا جاء دور الصحافة.

*تبنّت صحيفة الأيام قضيّة الإستقلال، من خلال قلم رئيس تحريرها المؤثر بشير محمد سعيد، الذي سحب ببابه (متنوعات .. أخبار .. وأفكا)البساط من تحت أقدام أي صحيفة تصدر في السّودان آنذاك، وإنتهى أمر أصحاب الدعوة للإستقلال من داخل الحزب الوطني الإتحادي، إلى أن يقدّموا مذكرة إلى رئيس الحزب يدعونه فيها إلى تغيير موقف الحزب من الإتّحاد إلى الإستقلال، وكانت مقالات الأستاذ بشير محمد سعيد قد أقنعت النّاس بالإستقلال، وكانت جماهير الحزب تذهب إلى الزعيم الأزهري في بيته تحمل ذات الطلب، وكذلك عدد من النّوّاب الذين إحتوتهم الدائرة، و بعد أن تسلّم الزعيم المذكرة إحتفظ بها، ولكن مع الضغوط المستمرة من أعضاء الهيئة البرلمانية، ومن النّوّاب، ومن جماهير وعضوية الحزب، أصدر الأزهري تصريحات أقرب للقرار، بأن هذا الأمر تملكه جماهير الحزب في السّودان، لذلك رأى أن يقوم بجولة واسعة يطوف فيها طول البلاد وعرضها ، مجتمعاً بالدوائر الفرعية فيها، ورافقه في رحلته تلك كبار الصّحفيين، بشير محمد سعيد، إسماعيل عتباني، وأحمد يوسف هاشم ، وعاد بتفويض من من جماهير الحزب وعضويته بدعوة الهيئة البرلمانية للحزب مبيناً إن الجماهير تريد الإستقلال، وقررت الهيئة البرلمانية الإستقلال بما يشبه الإجماع، إلّا عضوان إثنان، وهو ما دعا الأزهري وهو رئيس للوزراء أن يطلق تصريحه الشهير، وهو يرد على مسألتين مستعجلتين، من داخل البرلمان الأولى لعضو من الجنوب، والثانية لعضو حزب الأمة يعقوب حامد بابكر، الأولى تحدثت عن أن هناك معلومات بأن إتفاقاً سرّياً تم بين الحكومة وجهات أجنبية، لإنشاء قواعد أجنبية في البلاد، والثانية تقول إن هناك طائرات أجنبية بتصريح حكومي رسمي، تحوم في الأجواء السّودانية، فكان رد الأزهري إنه لا علم له بما قيل، وإنه غير حقيقي ، وقال : (إن حكومتي مهمتها تنفيذ إتفاقية عام 1953 م ، وأن تسودِن وظائف البريطانيين ، وأن تحقق الجلاء، فتمت السودنة بحمد الله ، وتم الجلاء بحمد الله، وسوف أُعْلِن الإستقلال من داخل هذه القاعة يوم الإثنين القادم).

*كلمة الأزهري كانت مفاجئة لحكومتي مصر وبريطانيا، بل وكل الاحزاب السّودانية بما فيها حزبه شخصياً، وقد جرت خلال يومين إتصالات مكثفة لمقابلة الوضع الجديد، وقد سمعتُ من والدي رحمه الله ، ثم لاحقاً من محمود الفضْلي، إن وفداً من ثلاثة أشخاص ذهبوا إلى السيّد الإمام عبدالرحمن المهدي ، يحرّضونه على ما أعلنه الأزهري، لأنها هي دعوة الإمام عبدالرحمن، والثلاثة هم الصّديق المهدي ، وميرغني حمزة، ومحمد أحمد محجوب، فردّهم السيّد عبدالرحمن بغضب، وإستدعى في لحظته عبدالرحمن النور قاضي المحكمة العليا، والأمير عبدالرحمن نقدالله ، وشخصاً ثالثاً ذكر والدي إنه يميل إلى أنه أمين التوم، وطلب إليهم أن يذهبوا فوراً إلى إسماعيل الأزهري في بيته، لإبلاغه إن السيّد عبدالرحمن يطلب منه السير بحزم في طريقه، وإنه يقف إلى جانبه حتى نهاية الطريق، وقد إرتفعت الروح المعنوية لرئيس الوزراء، الذي كان معه وقتها يحيى ومحمود الفضْلي وصالح عرابي، وهو موقف عظيم من السيّد عبدالرحمن الذي يشهد له التاريخ بمواقف عظيمة كثيرة ، لكن هذا من أعظمها.

   *هل وضحت الآن أهمية وضرورة كتابة المذكرات والذكريات وكُتب السّير الذاتية.. والتاريخ، رحم الله جميع الذين رحلوا.. وتقبل منهم بذلهم وعطاءهم وصالح أعمالهم، من أجلنا ومن أجل الأجيال القادمة وجعلها خالصة لوجهه الكريم .. وكل عام والوطن بألف ألف ألف خير.

  *أختم بالشكر والتقدير وعظيم الامتنان للأخ والصديق العزيز الأستاذ صلاح عمر الشيخ، على إضافته الحقيقية لصفحة مضيئة من صفحات تاريخ بلادنا.