
من موارد الأمل في الأغنية السودانية
تلاوين
عبد اللطيف مجتبى
أغنية المصير من عيون الغناء ومن خالص وارد حدائق حي العرب فهي للشاعر سيف الدين الدسوقي في الكلمات و لعبد اللطيف خضر ود الحاوي صاحب القدح المعلى في التلحين و إبراهيم عوض في الغناء ذلك الفنان الذري .
فأغنية المصير كانت ولم تزل من الأغنيات الملهمة للناس؛ تبث الأمل في النفوس و باعثة لروح التحدي لمصاعب الحياة و مواجهتها لصناعة نموذج يحتذي به جيل بأكمله:
(تاني ما تقول انتهينا بتنهي جيل ينظر إلينا
باني آماله و طموحه و معتمد أبدا علينا) .
المتأمل في نص هذه الأغنية التي يفتتحها الشاعر بسؤال مركزي :
(ليه بنهرب من مصيرنا و نقضي أيامنا فْ عذاب؟)
(ليه تقول لي انتهينا و نحن في عز الشباب؟)
يجد أن هذه الأسئلة عندما تتأمل في مضمونها مقروءة مع السياق الذي انتجت فيه فترة سبعينيات القرن الماضي، أو نحوها، والتي تعتبر فترة شباب الدولة السودانية، و عالم ما بعد الاستعمار بشكل عام . فقد كانت البلاد حينها تشب عن الطوق متعافية من روح الاستعمار على مستوى الآثار الاجتماعية التي خلفها، و منفلتة من ربقته التي عاش الناس فيها عهودا مظلمة – على الرغم من المظاهر المدنية التي لم يكن يشعر الناس بأنها لهم بل هي لراحة المستعمر.
لذلك عندما تقرأ الظرف الذي تلقى فيه الناس أغنية المصير ورفيقاتها من الأغنيات التي تبث روح الأمل في الناس و تحث على مشاريع الحياة المختلفة و تزرع المحبة و تؤمل في مستقبل زاهر حافل بكل ما هو جميل في تلك الفترة، تلاحظ أنها تلخص نظرة جيل كامل في تلك الحقبة وتؤسس لاستقبال حياة جديدة .
كما ترى هذا المنحى في أعمال غنائية أخرى، فتقريبا في نفس الفترة نجد فيها الشاعر الكبير حسين بازرعة كتب:
(ليه تقول أيامنا راحت و انتهينا)
تلك الأغنية التي شدا بها الفنان عثمان حسين بكل ثقله و حضوره الفني في نفوس عشاق أغنية ام درمان؛ مما دفع بموجة الأمل بعيدا في نفس ذلك الجيل و الأجيال التي تلته.
ما أردت قوله أصدقائي ان هذا الغناء ليس بمعزل عن لحظة استجابته في الذائقة الجمعية – إذا جاز لي التعبير – فثمة بوصلة تؤشر إلى نقطة إلتقاء ما في الإحساس العام و اتفاق في موضوع الاستجابة للعمل الفني، وهنا تكون مقولة كل يغني على ليلاه ليست صادقة بما يكفي في هذه الحال فليلى الجميع هنا تكمن فيما أملاه الظرف الذاتي و الموضوعي الذي حتَّم تسليط الضوء على نقطة واحدة في الوعي الجمعي بالظرف المحدد في تلك المرحلة. ومن ثم تنتج إثر ذلك المقولات التي يسير بها ركب الغناء و حاديه فتصبح من المكرسات و المقولات المعزولة عن سياق نصها الغنائي لتصبح الجمل مثل :
(نحن في عز الشباب )، أو (تاني ما تقول انتهينا)، أو (نحن يا دوب ابتدينا)
وغيرها مما تسير به الركبان من صيد المعاني الجمعية التي رأي فيها الناس سنداً و عضداً في التعاطي مع الظرف العام لتجاوز المحن و الأزمات أو الحث على الإنجاز والبقاء على جادة الطريق رغم ضبابية الراهن. حتى تصبح عبارات مكتفية بذاتها وربما تنبت عن أصلها بمرور الوقت.
كثيرا ما تمر الأمم بمنطفات حرجة تجعلها متفقة على ممسكات وجدانية وذلك على مر الأزمان كلما هبت رياح ساخنة كالتي نعاني فِيحَها الآن جراء هذه الحرب .
فما فعله الجيل السابق من التعاطي مع الغناء استمر أثره في الأجيال التي تلته فكان في صوت محمود عبد العزيز على سبيل المثال متكأً لجيل كامل في فترة التسعينيات العصيبة – اقتصاديا و سياسيا – و ما تلاها، إذ رددوا معه أغنيات مثل : (من الظروف ما تشيلي هم) و(ابقي الصمود ما تبقى خوف)
وكذلك نجد أغنية (حاجة آمن اتصبري) لمجموعة عقد الجلاد الغنائية من كلمات الشاعر العذب عبد الوهاب هلاوي . و الكثير الكثير من الأغاني التي صارت موردا للأمل ومبعثا للسير في مواكب الصبر و الصمود.
كم هو ملهم هذا الغناء و كم هو ركن ركين من أركان الروح عندما نبحث عن شاطيء أو مرسى هربا من تلك الأمواج المتلاطمة في بحار الحياة و هوج رياحها العاصفة .