افيقوا لحتميات التاريخ

 

على عسكوري

 

يخطىء كثيرا من يظن ان السودان بعد هذه الحرب سيكون هو السودان الذى عشنا فيه وعرفته اجيالنا. دون شك ذلك ماضى طارف او تليد قد ذهب الى غير رجعة، اسف عليه الناس ام لم يأسفوا فقد سقط واندثر!

ستحدث الحرب تغييرات جذرية عميقة في المجتمع. ستتغير الديمغرافيا والعادات والتقاليد والاخلاق والسلوكيات والممارسات اليومية و طرق التعليم والصحة و تتفكك الشبكات الاجتماعية وعلاقات الانتاج. ستضيع اجيال وستأتي اخري بمفاهيم جديدة تخرج من اتون الصراع تحددها مكنيزمات النصر والهزيمة. سيتغير فهم الناس للحياة، وستتصاعد الكراهية الاجتماعية التى تتشكل مقوماتها الان. فالجرائم كالقتل والاغتصاب والنهب والسلب للممتلكات والاصول تولد لامحالة الكراهية وان اجتهد المسؤولون ورفعوا شعار التسامح. فماذا بوسع مسؤل ان يقول لشخص اغتصبت زوجته وابنته وقتل والده وذل امام اطفاله ونهبت ممتلكاته وطرد من منزله دون سبب..! ارتكب كل ذلك في حقه من (يفترض) انهم مواطنون مثله في موقع اخر من البلاد..! هكذا دون سبب قاموا بالاعتداء عليه وتدمير حياته وانتهاك كامل حرماته وقتله او طرده. وبعد كل ذلك يقولون انهم سيبنوا له دولة جديدة قوامها الديمقراطية والعدل وغيرها من الخزعبلات التى صكت مسامع الناس! هذه وغيرها هي جوهر القضايا التى تواجهنا جميعا والتى يتوجب علينا البحث لها عن حلول ورؤية جديدة. ولذلك فالحديث عن التعايش في ظل الحرب اراه نوعا من الترف السياسي لا طائل منه. هنالك فرق بين التسامح والغفران وهو ما يتوجب على الجميع ادراكه.

 

رغم كل ما جري ويجري للناس، لا يزال غالب القوى السياسية يعتقد ان الاوضاع ستكون على ما كانت عليه قبل الحرب، وان معالجة الأمر تحتاج فقط لإجراء انتخابات بعد عام (كما صرح احدهم) و تعود الامور الى طبيعتها و (يا دار ما دخلك شر!)!

من واقع ردة فعل القوى السياسية من اقصي اليمين الى اقصي اليسار على ما يجري انها وجدت نفسها امام تحديات لا قبل لها بها ولا تدرى ماذا تفعل حيالها، ولذلك نجدها تدور في اطروحاتها القديمة البائسة وكأن الحرب لم تقع وكأن ملايين البشر لم يهجروا قسرا وكأن البنية التحتية للبلاد لم تدمر!

فالاسلاميين مثلا مازالوا فى طرحهم القديم يلوكون شعارات عفي عليها الزمن وذرتها رياح الصراع، واليسار ليس افضل منهم بأى حال، فما زال متمسكا بأحادية (لينيين) السياسية ومؤامرات (ستالين) وشعارات الطبقة العمالية، رغم عدم وجود عمال حاليا في البلاد بفعل الحرب، ولن تكن هنالك طبقة عمالية في المدى المنظور، ولكن على اى حال ما زال اليسار متمسكا بشعاراته حتى تيبس واضمحل وانزوى، ينتظر ظهور طبقة عمالية جديدة بعد الاعمار واعادة البناء ليطالب بزيادة الاجور لها! اما بقية القوى الاخري التى تدور بين فكي الرحي فقد تجمدت في مكانها عاجزة عن الحركة تتخطفها افكار اليمين واليسار وموقفها (دا حار ودا ما بتكوي بيه) كما يقول المثل الشعبي!

وبالنظر الى ان اليمين واليسار قد استنفذوا اغراضهم ونفذت ذخيرتهم الفكرية و دثرها الصراع فمن الطبيعي الا يكون لهم دور في المستقبل. لقد اسقطت الحرب خاتمهم الفكري وسط كومة الخراب وعليهم البحث عن زبرجدة او زمردة خاتمهم وسط الركام ان وجدوها!

 

تبقي الخطورة الحقيقية في عجز قوى الوسط وفشلها في تطوير فكرة جديدة يلتف حولها الناس وتعيد لللحمة الوطنية تماسكها. لن يكون بوسع (قوى الوسط) الاهتداء لفكرة جديدة تجمع شعث البلاد وتقدم مفاهيم جديدة للشباب تمنحهم الامل، مالم تخرج هذه القوى من تكلسها القديم ودورانها حول ذاتها وكشط ماضيها التعيس في السبهللية والتراخي والنهوض بعزم لبناء البلاد وتقديم القيادات الملهمة، وان لم تفعل ذلك من ذاتها، فعليها ان تدرك ان الحرب قد كشطت ماضيها تماما وان شيئا جديدا يتخلق، وعليها ان تكون مكونا اسياسيا للمولود الجديد لا ان تلاحقه لتعطل نموه وتشوهه.

 

من حقائق التاريخ نعلم ان الحروب تحدث تغييرات جذرية عميقة في اى مجتمع وتقود للانقسامات، فتاريخ البشرية كله يشهد بذلك وكثير من الدول نشأت نتيجة للحروب (جنوب السودان، البوسنة والهيرسك، باكستان، بنغلايش وغيرها مثالا)، ولذلك من الخطأ ان نتوقع ان تنهي الحرب ويعود الوضع الى ما كان عليه، فحتميات التاريخ كلها تقول بغير ذلك!

 

ولتجنب الحتميات التاريخية، علينا ان نغير مفاهيمنا وايدولوجياتنا القديمة يمينا ويسارا ونرميها في البحر، وان نبحث عن صيغة جديدة توفر لنا التعايش السلمى. ان لم نستبق ذلك فحتميات التاريخ تعمل وقطعا لن نكون افضل من الاخرين ولن نستطيع مواجهة قوى التاريخ.

من يخشي تفكك البلاد؛ عليه ان يعمل من اجل الوحدة.. والوحدة لا تتحقق بالتمسك بالايدولوجيات العقيمة، ومن جرب المجرب اصابته الندامة!

هذه الارض لنا

 

٢٦ اغسطس ٢٠٢٤