قهوة بمذاق آخر (الحلقة السابعة)

رواية
(دار آريثيريا للنشر والتوزيع – الخرطوم – السودان)
تأليف/
عمر أحمد المصطفى حياتي
الحلقة (7)
دخل التاج غرفة الاستقبال وحيا الجميع وعلى وجهه ابتسامة مشرقة، مقدما نفسه باسمه
السلام عليكم: التاج كرم الله الزبير.
عليكم السلام: خالد، خالد العامري.
غابت يد التاج أو كادت في يد خالد الضخمة أثناء مصافحته، ولاحظ ضآلة حجمه أمام خالد. يقف أمام رجل طويل يميل إلى المتانة، يلبس ثوبا أبيضَ ناصع البياض وغترة كشميرية بيضاء يعلوها عقال مربع الشكل طرزت أركانه بخيط ذهبي اللون، مطبقا مشلحا صيفيا أسود على ساعده الأيسر، ويداعب أصابعها السبابة والإبهام حبات مسبحة عقيق أحمر داكن اللون.
يا مرحبا أهلا وسهلا، شرفتو والله.
يا هلا فيج، إيشحالج أستاذ تاج؟
بخير والحمد لله، شركة التاج ترحب بكم في بلدكم الثاني السودان.
والله السودان زين وأهله ما عليهم زود.
ده من أصلكم يا شيخ خالد، بارك الله فيك.
استغل التاج خلع شيخ خالد نظارته أثناء تقديم واجب الضيافة وتفرس عينيه، إذ هما عينان كبيرتان حادتا النظرة، يميزهما جحوظ لا تخطئه العين، له نظرات ثاقبة حذرة عندما يركز مستمعا لحديث محدثه، يعلوهما حاجب كثيف الشعر، له أنف طويل مستقيم به عكفه صغيرة في وسطه وشفاه إلى الغلظة أقرب. عندما يفتران تبدو أسنانه بيضاء متراصة كلؤلؤ نقي، رجل يبدو في الخمسين من عمره تنقص أو تزيد قليلا.
إلى جانبه جلس عبد الباسط نورين، شاب سوداني متواضع الملبس، تكسو وجهه كآبة بائنة، كأن كل هموم الدنيا صبت على رأسه صبا. لا تبدو عليه سمات الهمة والحيوية، كان جالسا لا حراك له، مثله مثل الكرسي الذي يجلس عليه، بارد لا يحرك قسمات وجهه أي موقف كان، لا يبتسم حتى في وجه من يصافحه. ينفذ ما يأمره به شيخ خالد، ويقوم بدور السكرتير الخاص والسائق والدليل. وشخص آخر آسيوي يدعى آدي هوانشان، استغرب لوجوده بينهما. وعرف فيما بعد أنه صيني يتحدث العربية بصعوبة، وهو مسؤول عن كتابة وإرسال خطابات شيخ خالد باللغة الصينية وتحويلاته المالية إلى الشركات التي يتعامل معها في بكين، ومتابعة البضائع المستوردة من الصين. لم يستطع تحديد عمره، لكنه بدأ له أنه فوق الأربعين، أصفر اللون قصير القامة له شعر أسود ناعم كثيف يتدلى إلى شحمة أذنيه وحاجبيه، عيناه دقيقتان صغيرتان يحركهما بسذاجة في كل اتجاه في لمحة بصر كأنه يبحث عن شيء ضاع منه في زحام، حليق اللحية والشارب.
عرَّف التاج فريق عمله المكون من سليمان عبد الستار المدير المالي، ومحمد محمود المدير الإداري، وحازم الفكي موظف الإعلام والبروتكول، ونوال عبد السميع السكرتيرة. دار حوار فحواه عرض وطلب، وتفاوض في الأسعار وسعر الدولار الرئيسي والموازي، كل طرف كان يسعى من أجل تأمين موقفه الربحي في أي صفقة يتأمل الاتفاق عليها. وبعد نصف ساعة تقريبا وقع الطرفان على معاملة شراء لبن فورموست بقيمة ٤٧ ألف دولار. وقع التاج على شيك بالقيمة المتفق عليها وسلمه لسليمان، على أن يتم تسليم الشيك عند استلام البضاعة وفقا للعقد. أكد شيخ خالد أن الكمية موجودة على مخازنه بالدروشاب وهي آخر كمية تبقت له، وأن التسليم سيكون غدا. وفي مجمل حديثه مع التاج عبر عن عدم رضاه عن هذه الصفقة الضعيفة مع شركة التاج، بينما كان التاج سعيدا بها لأنه لأول مرة يدخل في تجارة المواد الغذائية إلى جانب معاملاته الأخرى في الحديد والأسمنت والمحاصيل. وأيقن التاج أنه خلال شهر واحد فقط سيربح (15) ألف دولار على الأقل، وستكون بداية طيبة لشركته في هذا المجال.
رفع خالد هاتفه راداً على اتصال، استرق التاج السمع لجانب من المكالمة، أدرك أنها تدور حول الفورموست، سمع شيخ خالد يرفع صوته
لا والله، ترا خلاص، الكمية اللي بحولنا خلاص بيعت، خيرها في غيرها يا غالي.
…….
والله كنت حاطط أمل كبير عليها، وتجيب مبلغا زين في السودان، يلا حصل خير، ايش نسوي.
…….
يلا يلا أستاذ ود العمدة.
استأذن التاج من شيخ خالد بحجة أنه ذاهب للمكتب لترتيب صفقة أخرى لمواد تستورد من دبي قبل حلول شهر رمضان، وخرج مسرعا لمكتبه، وفي باله أمر آخر. “التجارة شطارة”، الدرس الثاني الذي علمه خاله دون أن يؤذيه. أجرى اتصالا سريعا ليتقصى من ود العمدة زميله في السوق الخبر. عبر ود العمدة عن حاجته للبن الفورموست، وأكد له أن السوق كاشف من كل أنواع لبن البودرة، وحتى شيخ خالد العامري نفسه ليس لديه. وتأسف وندب حظه أن رمضان على الأبواب وهو يفتقر لهذا الصنف، وأن التجار بدأوا في رفع الأسعار من الآن، وربما تتعثر الطلبية لو استوردها من الخارج. هكذا أعطى ود العمدة المعلومة كاملة للتاج دون تحفظ، لأن شركة التاج، حسب علمه، لا تعمل في هذا المجال، ولا علاقة لها بالمواد الغذائية.
طلب التاج من سليمان برسالة واتس الاعتذار من شيخ خالد لبعض الوقت بغرض التشاور مع التاج لترتيب صفقة جديدة، دخل سليمان مسرعا مكتب التاج فوجده واقفا في وسط المكتب قلقا، وفور دخوله أمره التاج بإغلاق الباب خلفه، وتقدم نحوه ووضع يده على كتفه واقترب من أذنه وقال له بصوت أقرب للهمس:
اسمعني كويس يا سليمان، أفهم وركز معاي كويس، شوف ليك سمسار شاطر، ممكن تشوف ود الركين لو فاضي، يبيع لبن الفورموست ده لود العمدة هسع، بي ٦٥ ألف دولار.
يا أستاذ كدي صلي على النبي، في شنو يازول؟ نحن لسه ما استلمنا البضاعة وما سلمناهم والشيك؟
ما مشكلة هات الشيك، أنا حا أحسم موضوعه، حا أتصرف، لو تمت البيعة بكرة تترحل البضاعة من الدروشاب مباشرة لمخازن ود العمدة في شمبات الحلة.
سلمه سليمان الشيك، وفي رأسه ألف استفهام، وسأل بتلهف:
طيب فهمني يا أخي، أنا رأسي شطب.
ما مشكلة بعدين، بعدين بفهمك الموضوع.
أهم حاجة ود العمدة ما يعرف البضاعة جات من وين، ولا يجيب السمسار اسمنا ولا اسم الشركة لا من قريب ولا من بعيد، ولو نجح في المهمة دي أمسح ليهو شنبو لمن يتكيف.
حاضر، حاضر، السعر ثابت ولى في مجال.
يعني لحدي ٦٢ – ٦٠ ألف كده خارجها.
طيب والاجتماع، وورقي العلى الطاولة والملفات والمستندات، وبعدين أنت فاكر نوال قاعد تكتب في وقائع الاجتماع، والله بمليها أنا؟
يا أخي أسرع الله يهديك، خلي نوال تكمل الشغل براها، هي حا تتعلم متين؟.
تمام، تمام.
وخرج من فوره إلى مكتبه يبحث عن ود الركين السمسار ليكلفه بالمهمة.
رجع التاج مسرعا لغرفة الاستقبال والاجتماعات وبين يديه كتيبات ومطبقات عن مهام وإنجازات شركته خصصت للدعاية عنها، صممها حازم باحترافية عالية. تصفحها مع شيخ خالد على عجل وبعدم اكتراث، وشرع في الحديث عن تطلعاته التجارية في الخرطوم وشكى من ضعف حركة السوق، ومحدودية الحركة التجارية في السودان مقارنة بالأسواق الخليجية. كما لمح عن رغبته بفتح مكتب له في أديس أبابا بالإضافة لمكتبه في الخرطوم، لانطلاقة مستقبلية في منطقة القرن الإفريقي. وظل يحكي ويحكي، ولكن قلب التاج في واد آخر، لا يفكر إلا في صفقة الفورموست مع ود العمدة، وظل يراقب رسائل هاتفه بين الفينة والأخرى في شوق وحذر ممنيا نفسه برسالة من سليمان تفيد باكتمال الصفقة حتى يتسنى له فتح أفق تجاري آخر مع شيخ خالد.
“تمت العملية يا ريس، ب 60 الف وسنسلمهم البضاعة غدا، والشيك في الطريق إلينا”، رسالة وصلته من سليمان، تنفس الصعداء، وتهلل وجهه فرحا، ودون أن يشعر أخرج شيك صفقة الفورموست من جيبه وسلمه لشيخ خالد، واستدرك في الحال تأمين موقفه بتصوير الشيك، استأذن من شيخ خالد استرجاع الشيك لعشر دقائق ريثما يتم إكمال ترتيب وتصوير كل المستندات بما فيها الشيك. سلمه شيخ خالد بطيب خاطر لأنه لم يسأله أصلا لماذا سلمه الشيك قبل استلام الكمية المباعة من الفورموست. وهو لا يدري أن شيك ود العمدة سيصل للتاج خلال دقائق معدودة بقيمة ربح قياسية مقارنة بالفترة الزمنية.
وفي غمرة فرحته هذه خرج عن إطار برتوكول الاجتماع ودعا الجميع وبإصرار شديد لتناول وجبة غداء على شرف الضيوف. دعوة أربكت مديره الإداري ود محمود وموظف البرتوكول حازم. ورفعت نوال رأسها فجأة فزعة كفريسة سمعت صوت كاسر في الجوار، فتبادلت نظرات الحيرة مع حازم في تصرف التاج غير المسبوق، وخروجه عن البرتوكول. نظرات تتساءل في صمت عن الكرم الحاتمي الذي نزل على التاج كغيث سحابة صيفية مزمجرة رعودها. تمنوا في تلك اللحظة إن كان سليمان بينهم لفسر لهم ما يحدث لصاحبه.
ما تجيبوا الغداء هنا وخلاص، ردت نوال بعفوية.
رمقها التاج بنظرة أكثر حدة من تلك، وأعاد الدعوة صارفا وجهه عنها ناحية ضيوفه، باعثا رسالة مبطنة لها مفادها أنها ليست المقصودة بالدعوة وحدها إنما الدعوة على شرف الضيوف.
ايش دعوى يا رجال ترى ما في داعي على قول السودانيين، رد شيخ خالد.
أومأ التاج لحازم برأسه، فهم حازم تلك الحركة بأنها أمر مباشر بالتصرف وترتيب الغداء دون الرجوع إليه. واصل الرجلان، التاج وشيخ خالد الحديث عن الصفقات، تحدث التاج عن أرباحه من تجارة المحاصيل التي تشحن له من الأبيض عبر مناديبه، وسعة مخازنه، وأساليب تخزين كل محصول منها، وسيطرته على أسعارها في السوق، قاطعه شيخ خالد:
أيش الفائدة من الكركدي، يعني في إيش يستخدمونه غير مشروب حار كالشاهي.
شوف يا شيخ خالد، أصلا الكركدي ده من ناحية طبية معروف أنه يقلل من السمنة، يعني أي زول سمين يداوم عليه وزنه بينقص، وما بتجيه ذبحة قلبية، ولا بجيه سرطان ولا التهابات، عارف ليه، لأنه بزيد المناعة، وبعدين فيه عصير حاجة عجيبة.
عجيييب.
أيضا بدخل في صناعات كثيرة، زي الأدوية، بدليل أنه بدخل في صناعة الحبوب المنومة، وفي صناعة معجون السلطات والحلويات والكيك والجلاتين وصناعات ثانية كثيرة.
وأنت ليش بتصدره للصين؟
طبعا نحن هنا شجرة منتهانا سحنه وبيعه فقط، لأن الصناعة لسه عندنا ما وصلت مرحلة تصنيعه بصورة متطورة، عندنا تصنيع في مجاله لكنه محدود. لكن الصينيين بصنعوا منه حاجات كتيره، وبعملوه في ظروف كده زي ظروف الشاي دي، البسموها تيباق دي، عندكم كثيرة في الفنادق والمقاهي في دبي.
صدقت، يعني هذا الكركدي اللي تصدرونه للصين هو نفسه اللي يصنعون منه “التي باقز”، ورددها بلغة إنجليزية واضحة مخارج حروفها.
ايوه نعم، من الكركدي ده زاااتو، وتجارته رائجة جدا في كل العالم، وزي ما قلت ليك تجارته فيها أرباح عالية جدا تفوق الأربعين في المائة أحيانا.
طيب، أشوف إيش أسوي، شوي وأرجع لك.
طلب شيخ خالد الجلوس لوحده مع هوانشان، في مكان غير غرفة الاجتماعات بغرض التشاور، وسمح لهما بالجلوس في مكتب العلاقات العامة القريب من قاعة الاستقبال والاجتماعات، وعادا بعد زهاء نصف ساعة أجريا فيها عدة اتصالات بتجار في دبي وأبو ظبي ثم أجريا اتصالات مع مصانع ببكين وشنغهاي كان لهوانشان دور كبير في توصيل المعلومات المطلوبة.
كان التاج في انتظار عودتهما على أحر من الجمر..
نواصل…