حسن يوسف ممتشقا معنى فنون التمثيل رؤية للترقي الإجتماعي وخفْقةٌ قلب برائحة تراب السودان

الدكتور فضل الله أحمد عبدالله

 

في تاريخ الإنسانية ، وعلى تواتر الحقب والأزمان ظلت ، ولا تزال ، حركة الإبداع الثقافي والحاجة إليها ، لازمة من لوازم حيواتها ، أفرادا وجماعات ، شغف يسكن الطبع البشري ، يرافقه ، ويمنحه ما هو نقصان ، وتوق إلى الاكتمال .

ولعمليات اكتمال دائرة سريان تيار الإبداع ، وصولا إلى الجمهور ، متعاطيا له ، متلاءما معه ، يأتي قبس الناقد قائما كالمشعل في الدرب ، منيرا للعيون ، وليس عيون الجمهور فحسب ، بل عيون صاحب المنتج الإبداعي نفسه .

هناك أشياء يقولها المبدع ، وأشياء أخرى يقولها رغما عنه ، وفي الأخرى ( يكمن ) الناقد ملقيا رماح الأسئلة المعرفية دون ( شوفينية ) ..
يباغت دون تباه ، يشاكس دون ادعاء ، يستفز دون غلو ولا مشاحنة ، يلقي الضوء في الزوايا المعتمة دون ابتذال .

فيتيح للمبدع والمتلقي مساحات لتطوير الأفكار التي ابتدعوها معا في عمليات التفاعل مع المنتج الإبداعي ، ثم نسفها ، وإعادة تركيبها ، بمحبة وإحترام .
إنها لعبة ، وفي كل لعبة ( كر وفر ) وتلمس طرق محفوفة بالمتهات .

فتلك وظيفة الناقد ، والحاجة إليه ملحة لترقية الإبداع ، وتوجيه دفته ، وتنمية الذوق العام ، مما يؤدي إلي ارتفاع مكانة الإبداع الجيد .

فالناقد هو الحارس الأمين على الحياة الإبداعية ، والمدافع الصلد عن القيم الأخلاقية وثوابت الجماعة ومبادئها .

بالنقد تعلو القيم والثوابت ، وتتمركز في جوهر الفن وتتجمل بها ، شكلا ومضمونا ، وذلك وفقا لمنطق الفن ووظيفته في إبداع حياة الجماعة ، وصون شخصيتها الثقافية ، وهويتها الإنسانية في سبيل الوجود والإستمرارية .

بتلك الأبعاد ، وتأسيسا عليها أجد نفسي كاتبا لهذا المقال ، ناقدا ، مستقصيا ، بقصدية الكاشف عن حالة مبدع بذل وأعطى رحيق عمره ونضارة شبابه ، اشتغالا في دائرة الفنون التمثيلية ، بتعدد أشكالها ، ( دراما المسرح ، درما التلفزيون ، ودراما الإذاعة ) .

عمل برجاحة عقل ، وهمة وثابة ، منطلقا بمحبة للسودان ووفاء جميل لإهله ، صائغا في إبداعياته تساؤلات كبرى عن المصير والموقع والدفاع المستميت عن البلد والناس .

وفوق ذلك كله ، هو إنسان ، طزاج الإنسانية ، لن تراه إلا مجسدا لحالة مرئية ، محسوسة ، لإولئك الذين قال عنهم الرسول صل الله عليه وسلم : ( الموطؤن أكنافا الذين يألفون ويؤلفون ) ..

فنان المسرح المشخص الكوميدي بامتياز ( حسن يوسف حمد ) وذلك اسمه ( الرسمي ) إلا أن ( سيد جرسه ) هو الاسم ( الشعبي ) أو اللقب الذي طبعه به الجمهور المحب له ، فنال شهرته بذلك الاسم ، في عملية ترحيل عظيمة الذكاء ، لذات الأسم الذي لعب به ( مشخصا ) في السلسلة الدرامية التلفزيونية ( سيد جرسه ) والتي بلغت زهاء أكثر من أربعمائة حلقة قدمها تلفزيون السودان في أزمان ومناسبات مختلفة .

حسن يوسف أحد شباب السودان النواضر – إبان فترة أعوام الثمانينيات – الذين أسهموا في تأسيس مرحلة جديدة للمسرح السوداني ، منظورا إلى أن التعاقب الزمني التاريخي المتواتر لهذا الفن في السودان ، هو سلسلة من الأحداث المتصلة به ، ذلك التواتر الذي يحدث بصورة مستمرة في أنساق الفن الواحد ، أو مجموعة من الفنون التي تستوجب الدراسة والبحث في أسئلتها ورؤاها الفكرية ، وصياغتها للمستقبل في أفق محاورتها للآن وهنا ، بحثا عن صيغ جديدة للتعبير .

أمضيت وقتا طويلا بانغماسي في سجلات أعماله الدرامية العميقة ، ناظرا بتمهل في أوراقي القديمة ،
إنعاشا للذاكرة ، باستدعاء صور ومشاهدات عادت بي إلى زمن عروض ( فرقة نمارق المسرحية ) إذ كان حسن يوسف في طليعتها ، ومن ربابنة سفينة التمثيل فيها .

تلك الأيام من زمن مسار الحركة المسرحية ، في السودان ، وحسن يوسف – الشاب – من أصحاب الأصوات الجهيرة في جيله ، وفيا لذاته ، حافرا سيرته التي تخبر ، بأنه لم يعطي بسخاء ومحبة فحسب ، بل تخبرنا سيرته عن حالة عصامية نادرة ، احترقت بصدق في خشبات مسارح السودان وبحرفية حاذقة .

استمعت إليه كثيرا في مسألة المسرح ، وقرأت ما وراء أقواله من المعاني ، فلاح لي من إشارات كلامه أنه قلق وبشدة لمسألة ( شبهة الفن ) العابر من وراء الحدود محمولا على مطايا التكنولوجيا الحديثة ، ليستئصل جذور ثقافة كتلنا الإجتماعية ، إلا من استعصم بهويته ، ولم يقع في هوى تراكيب تلك الصور المخملية ، وغوايتها .

ليكشف حسن يوسف الممثل الكوميدي أنه من الرائين ، أن فن التمثيل الذي يعلو ويمتاز بالموضوعية والجمالية الفنية ، هو ذلك الذي يخلط ( رائِحَةُ تُّراب البلد ) في إنسجة بناء أحداثه ، وأفعال شخوصه ومواقفهم .

فالمسرح المقاوم لأسباب أنهيار الثقافة الوطنية ، ضدا لذوبانها في النظام الإحتلالي الجديد الذي يعمل على خلق نمط بشري موحد ، هو أن نجعل روح لغتنا الوطنية بكل علاماتها الألسنية والجسدية ، والمادية ، وشروطها سلطانا على فن العرض المسرحي ، ذلك هو مفتاح ( الأمان ) لبوابة الوطن من مهددات الإحتلال .

ذلك هو المسرح الذي يجب أن نمتثل إلى شروطه الواجبة الآن وهنا ، لنصون شخصية الفرد فشخصية الفرد هي من شخصية الجماعة وأن أنهيار المجتع يكون بانهيار الفرد .

بناء على تلك الإشارات من المعاني يمكن القول
أن حسن يوسف فنان صاحب إدراك واسع بجوهر وظيفة الفنون التمثيلية ، وواجبها في الترقي الإجتماعي ، وخلق رؤية حضارية كاملة في حياة الناس ، في بلد مثل السودان ، فيه من الإثنيات والأعراف واللغات وما فيه .

إذا أدركنا هذا المعنى للفنون لساعد ذلك في تعرفنا للآخر ، وتعرف الآخر علينا ، وهذا استكمال للجهد في الإتجاه الوطني ، بالفن تتجمل الحياة ، والناس جميعا في حاجة للجمال ، وافتقار الجمال يسوق أفراد المجتمع إلى بشاعات مأساوية كثيرة .