عمارة قنب: فكرة مجنونة

بعين مفتوحة 

خالد البلولة 

 

 

يلاحظ المسافرون على طريق مدني–الخرطوم،سواء القادمون من الخرطوم إلى مدينة ود مدني أو العكس، بناية شامخة في قرية قنب الحلاوين، تقف في إباء وشموخ بمحافظة الحصاحيصا.

هذه البناية السامقة،بلونها الحرجلي، تعود فكرتها إلى مضوي محمد أحمد، المعروف بـ”مضوي اللحمر”،وقد لا تجد لها نظيرًا في أصقاع السودان قاطبة,حين بادر مضوي بتشييدها في مطلع الثمانينيات، كنت دائمًا أتساءل: من هذا الرجل المغامر والمخالف للسائد؟ وما هدفه من بناء عمارة شامخة وسط بيوت القرية البسيطة؟كنت أتصور أن هذه العمارة ترمق البيوت من حولها باستعلاء، وتنظر إليها البيوت بغيظ مكتوم، أو هكذا تخيلت عندما اقتربت منها وتجولت داخلها.

ذهبت إليه برفقة فريق من التلفزيون القومي في وقت كانت الخرطوم تصطلي بنيران هجوم خليل إبراهيم عليها، لذلك تعد زيارة عمارة قنب واحدة من الزيارات الراسخة في ذاكرتي.

لم أكن أعرف الرجل، ولم تكن بيننا صلة أو سابق معرفة،ولم أملك عنه معلومة واحدة أو وسيلة اتصال،سوى أنه صاحب تلك العمارة اللافتة للنظر، التي أصبحت معلمًا بارزًا على طريق الخرطوم–مدني، قبالة معدية الجنيد من الجهة الغربية.

في الطريق إليه، التقينا أحد المسافرين على قارعة الطريق، طلب أن نحمله معنا إلى قريته المجاورة لقنب الحلاوين. سألنا:

– أنتم ذاهبون إلى أين؟

– إلى صاحب العمارة في قرية قنب!

– قريبكم أم مجرد معرفة؟

– لا هذا ولا ذاك، فقط نريد أن نراه ونتحدث معه.

– الرجل صعب، ولن تخرجوا منه بشيء!

أثار حديثه فضولي،فقلت له مازحًا: الارضة جرّبت الحجر، وسمح الكلام من خشم سيدو.”

وصلنا إلى المكان،وتركنا زملائي في السيارة ثم طرقت الباب، وكانت الساعة تقترب من الرابعة والنصف عصرًا. فتح الباب رجل قمحي اللون،فارع الطول، نحيف يرتدي “عراقيًا بلديًا”يبدو سودانيًا بسيطًا. رحّب بنا بترحاب طيب، رغم أن أمارات الاستغراب بدت واضحة على وجهه.

قبل أن يدعونا للدخول، عرّفته بنفسي:

“نحن من التلفزيون، جئنا بدون موعد لأننا لم نجد وسيلة اتصال بك، وسألنا عنك أحد الأشخاص،فقال إنك رجل صعب ولن ترحب بنا، لكننا قلنا له: سمح الكلام من خشم سيدو!”

بدا أنه تفاجأ بصراحتي، وصار “منبهطًا” قبل أن يعلق مبتسمًا: “الله يكفينا شر الحاسدين.”

لم تمضِ سوى لحظات حتى بدد الرجل كل الصورة الذهنية التي رسمها عنه الآخرون،رحب بنا بأريحية كاملة، وأدخلنا إلى بيته، حيث استقبلتنا أسرته بحرارة، وبينهم رفيقة دربه،قلت له:قديمًا،كان في الناس الحسد،لا تهتم، فالقمم مستهدفة دائمًا.”

طلبت منه أن نبدأ التصوير قبل أن تغيب الشمس، فوافق،وتجولنا في العمارة وكأننا أصحاب الدار، بينما كان هو الضيف.

يروي مضوي اللحمر أن فكرة بناء هذه العمارة راودته قديمًا، فشرع في تنفيذها في الثمانينيات، على يد المقاول عبد الغني مركز،والد لاعب الهلال السابق زاهر مركز. وقد استجلب أثاثها من الخارج (نسيت الدولة التي ذكرها).

وعندما سألته عن سبب تشييدها في قريته قنب بدلاً عن الخرطوم أو الحصاحيصا قال:أردت أن أجمع أبنائي وبناتي حولي.”

ولو نظرنا إلى هذه الرؤية بحسابات اليوم، سنجد أن الرجل كان بعيد النظر،فالأحداث التي شهدتها الخرطوم لاحقًا أكدت صحة قراره،كما أن الأثرياء في الخارج يفضلون السكن في الريف بدلاً من المدن، وهذا ما فعله مضوي قبل عقود.

كان مضوي رجلاً اجتماعيًا من الطراز الأول، متواضعًا لأبعد الحدود، طموحًا، وصاحب تاريخ حافل بالعمل والإنجاز. منّ الله عليه بنعمة المال، وكانت تربطه علاقات متينة برجال السياسة والأعمال، وله صلات اجتماعية واسعة داخل قريته وخارجها. وقد استضافت عمارته قامات سياسية واقتصادية بارزة، مثل الرئيس عمر البشير، الصادق المهدي، وأسماء أخرى.

يُعدّ والده واحدًا من كبار أثرياء ولاية الجزيرة، لذا لم يكن غريبًا أن يترك خلفه إرثًا معماريًا فريدًا في قريته قنب الحلاوين سيظل يحكي عنه للأجيال القادمة.

هل كان بناء هذه العمارة في قرية صغيرة مثل قنب الحلاوين فكرة منطقية في الثمانينيات؟ ربما ظن البعض ذلك آنذاك، لكن برؤية اليوم، نجد أن مضوي اللحمر كان رجلًا سابقًا لزمانه.

رحم الله مضوي محمد أحمد، فقد ترك خلفه شاهدًا معماريًا يحكي عن فكره ورؤيته التي سبقت عصرها.