نبض النص.. نبض الأرض..قراءة حول أسئلة الهوية في نص بين مريم الأخرى و المجدلية (3/3)

تلاوين 

عبد اللطيف مجتبى 

نواصل ما انقطع من قراءة لنص بين مريم الأخرى و المجدلية وكنا قد تناولنا في الجزء الأول مقدمة هذه القراءة التي تم فيها عرض تسمية هذه القراءة بالإضافة إلى تشريح النص إلى سبعة مراكز نابضة وتم الاتفاق على تسميتها باللحظات وقد تناولنا في الجزء الأول حسب ترتيب النص ثلاث لحظات وهي لحظة المخاض و لحظة الميلاد ثم أخيرا لحظة التساؤل . وفي الجزء الثاني كنا قد تناولنا ما تبقى من تلك اللحظات السبعة وهي لحظة المجد و الفخر والتاريخ،فلحظة الوجد ولحظة التيه و الضياع ثم أخيرا لحظة النداء. فلنبدأ إذن هذا الجزء الثالث و الأخير من هذه الحلقات التي سرنا فيها معا على مدى ثلاثة أسابيع في قراءة متعجلة لهذا النص الفاتن الذي تحتاج قراءته كتبًا ومقالات عديدة لسبر أغواره .فننطلق إلى القراءة :

من خلال تلك اللحظات السبع والتي تم تناولها بالتشريح الأسبوع الماضي والتي تنبض بها أحوال النص ومناخاته المختلفة، يتبين :

– أن هذا العمل الفني الذي تجولنا معه. يشكل فضاءات متباينة ، إذ حلق بنا فيها متنقلا بين لحظات العدم والألم و اللاجدوى وبين عوالم حافلة بالأسئلة ، باحثة عن كينونة غائبة لهوية راسخة في التاريخ وعن ملامح غائبة في الحاضر، بكينا معه انتظرنا تأملنا ،عصفت بنا أمواج الرجاءات وغصنا معه في عميق المياه و تكبدنا مشاق الرحيل و الترقب و انتظار المستحيل وطار بنا بعيدا بجناحين من الشعر و العرفان.

– إن القصيدة شكلت وحدة موضوعية واحدة قوامها البحث عن ذات غائبة منتظَرة ووجود ما محتمل ، وقد تنكب لها الشاعر مسالك شتى مثخنا بجراح السؤال هاربا حينا عائدا حينا آخر من وإلى تسفار بعيد في أقاصي الذات و الأماكن.

– هذا النص الشعري بين مريم الأخرى و المجدلية على الرغم من أنه وصلنا عبر حنجرة الراحل مصطفى سيد أحمد الآسرة المثقفة و ألحانه الأخاذة المعبرة إلا أنه وقف شامخا صامدا أمام تجربة الغناء الذي تحاول فيه الأغنية كعمل فن تشاركي ان تقسِّم جذوة الألق و الجمال و السحر بين الشعر و اللحن و الأداء ، بوصفها أعمالا متكاملة و متفاعلة يصعب الفصل بينها بعد إدراجها في منظومة العمل الغنائي ، إلا أن النص الشعري هنا قد أفلت من إسار هذا الثالوث المتماسك ليظل محتفظا بكينونته لغة وإيقاعا و تأثيرا فظل موردا مستقلا ملهما للروح و القلب و شاهدا على نداءات أسئلة الوجود الأساسية ، يتجلى قبسه كلما مرت بنا مواقف مختلفة من مشاهد الحياة العابرة أو المركزية، شاهرا مقولاته النابصة في الوجدان من أول جملة إلى آخر النص

 

– مقولات النص نجد أنه لوح بجملة من المقولات التي صارت مراكز أساسية و لحظات نبض ترتب و تعين على عبور لحظات قاسية أو حائرة أو جائرة أو لحظات حب و نداء لغائبين. فعلى سبيل المثال أن :

(ها هي الأرض تغطت بالتعب ) و ( وأنا مقياس رسم للتواصل و الرحيل ) و( يا هذه البنت التي تمت في دنياي سهلا و ربوعا و بقاع

ما الذي قد صب في عينيك شيئا من تراجيديا الصراع)

(نحن سجلنا التآلف في انفعالات الأجنة )

وكل النص عبارة عن مقولات نابضة تعيد المتلقي إلى فضاءاته المختلفة في لحظات : الأسئلة و الحيرة و الحب و الجمال و التشرد ليعين على التمركز والثبات و التمني والرجاء وقسوة الانتظار واليأس حتى أصبح ركيزة وجدانية لأجيال أنهكتها أسئلة الذات و الهوية وذلك ربما يكون أحد أسرار هذا الانفلات من تلك المنظومة الصارمة للأغنية.

 

نص سايَرَنا في حياتنا بكل حفاوة و جمال و بهاء في كل المراحل نحن كجيل تفتح جماليا على مثل هذه المشارب الرَوِيَّة فاصطحبناه شبابا و كهولا و شيوخا و لم يزل يمدنا بالنبض و البريق و الوهج الذي يبعث الروح و يحملها على السير قدما في فيافي الحياة و أيامها الجديبة المقفرة.

كما يمكن القول بأن حظوة هذا النص من الاحتفاء بين المثقفين ،لا تقل عن حظوة من نص العودة إلى سنار لمحمد عبد الحي ولا بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت لمحمد المكي إبراهيم أو حتى قصيدة انطلاقة لمحمد المهدي المجذوب والكثير من الأعمال الفنية التي عبرت جماليا عن ثيمة الهوية و أسئلتها المتقاطعة سواء أكانت من مدرسة الغابة والصحراء أوالخرطوم التشكيلية أوغيرهما ،فالنص في عمومياته يشكل بحثا عن غياب غير محدد لذات ما . تنداح في فضائه سائرُ أسئلة الهوية عامُّها وخاصُّها وهذا ما أكسب هذا النص طاقة إلغاز هائلة، جعلته يكشف عن مكنوناته حينا ويخفيها أحيانا أخرى.

ختاما أهدي هذه القراء إلى أستاذنا الشاعر الكبير محمد عبد الله شمو الذي توهج اسمه بتوهج هذا النص وهو يستشفي هذه الأيام من وعكة صحية نسأل الله له كامل الأجر وعاجل الشفء وتمام العافية .