آخر الأخبار

نداء الماء الأخير

  • أصرت إثيوبيا على انتهاج سياسة فرض الأمر الواقع ساعيةً إلى التصرّف من جانبٍ واحدٍ دون تنسيقٍ أو تشاورٍ مع دول الجوار
  • يجب على محكمة العدل الدولية أن تقول كلمتها حتى  تتحوّلا المياه إلى شرارة نزاعٍ جديدٍ في قلب القارّة

 

لمياء موسى

*حين نفقد لغة الحوار، ونغلق ملفّ التفاوض، ونسدل الستار على آخر فصول النقاش،

يغرق التفاهم في أوّل الموج وتنحسر المودّة شيئًا فشيئًا، حينها تعلو أمواج الأنا وتختفي شواطئ العفو والاحتواء. ومع كل ارتفاعٍ في منسوب الصمت، يتكاثر سوء الفهم، وتتناسخ الأخطاء، وتتعمّق الشقوق في جدران العلاقات، حتى تغدو المسافات بين القلوب أبعد من البحار، سواء كانت أسرة صغيرة أو مجتمعًا واسعًا أو دولًا بأكملها.

 

*في ظلّ تنامي المخاوف المائية الإقليمية،

مع استمرار امتلاء بحيرة سدّ النهضة الإثيوبي، أعلنت وزارة الزراعة السودانية في وقتٍ سابق تسجيل ارتفاع كبير في منسوب النيل الأزرق، مشيرةً إلى أن ذلك يتزامن مع زيادةٍ ملحوظة في إيرادات مياه النيل الأبيض أيضًا.

 

*لذلك شهدت مؤخرًا عدة مناطق سودانية، من بينها جنوب العاصمة الخرطوم ومنطقة الشقيلات، موجةً من الفيضانات اجتاحت المنازل السكنية والبنى التحتية، بالإضافة إلى المساحات الزراعية، مما أدّى إلى دمارٍ واسع في المساكن وخسارة كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية، فضلًا عن نفوق أعدادٍ كبيرة من الماشية، بحسب وكالات الأنباء.

 

*وعلى الجانب المصري، حذّرت الحكومة المواطنين القاطنين على ضفاف نهر النيل من احتمال ارتفاع منسوب المياه وغمرها لمنازلهم وأراضيهم في أي لحظة، داعيةً إلى اتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر.

 

*ترتبط العديد من المشكلات السياسية بموضوع المياه، لما له من أهميةٍ كبرى في حياة الشعوب وأمنها الغذائي ونشاطها الاقتصادي وخططها التنموية. وتتفاقم هذه المشكلات بشكلٍ خاص عندما يغيب التنسيق بين الدول المتشاطئة على الأنهار الدولية في إدارة الموارد المائية المشتركة.

 

*ومن هذا المنطلق برزت قضية سدّ النهضة الإثيوبي، إذ تسعى إثيوبيا منذ فترةٍ طويلة إلى الاستفادة من مياه نهر النيل لتوليد الطاقة الكهربائية من خلال إقامة مشروع سدّ الألفية (النهضة) بالقرب من الحدود السودانية. وقد وُضع حجر الأساس لهذا المشروع عام 2011، رغم الرفض المصري والسوداني له لما يمثّله من تهديدٍ محتملٍ لحصص البلدين المائية وأمنهما المائي.

 

*تستمدّ إثيوبيا أهميّتها الجغرافية والسياسية بين دول حوض النيل من كونها المنبع والمصدر الرئيس لمياهه، إذ تتحكّم بما يقارب 86% من إيراد النهر الكلّي. فمن أراضيها ينبع النيل الأزرق، ذلك الشريان الحيوي الذي يغذّي النيل العظيم بالحياة، قبل أن يشقّ طريقه نحو السودان ومصر، حيث يشكّل النهر هناك العمود الفقري للحياة ومصدر الأمن المائي والغذائي.

 

*ولذلك حين شرعت إثيوبيا في بناء السدّ، ارتفعت حدّة التوتّر بين دول الحوض، وبدأت المخاوف تتعاظم من تأثير هذا المشروع على تدفّق المياه إلى دول المصبّ. وقد امتدت المفاوضات بين الدول الثلاث لفترةٍ ليست بالقصيرة، قبل أن يعلن وزير الموارد المائية المصري أنّ تعنّت الموقف الإثيوبي هو السبب في تعثّر مفاوضات سدّ النهضة، رغم ما أبدته القاهرة والخرطوم من مرونةٍ ورغبةٍ صادقة في الوصول إلى اتفاقٍ قانونيٍّ عادلٍ وملزمٍ يضمن مصالح جميع الأطراف ويوازن بين الحقّ في التنمية وحقّ الآخرين في الحياة.

 

*لكنّ السياسة المنفردة التي انتهجتها إثيوبيا، وتجاهلها لمخاوف الدولتين، أدّيا إلى جمودٍ سياسيٍّ وتوتّرٍ متصاعدٍ يُنذر – على المدى البعيد – بعواقب وخيمة قد تطال استقرار المنطقة بأسرها، إن لم يُعَدّ للمياه ميزانها العادل، وللنهر صوته المشترك بين الشعوب التي تعيش على ضفافه.

 

*ومع تصاعد التباينات السياسية والمصالح

الإقليمية،أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2019، تعثّر المفاوضات بين مصر وإثيوبيا والسودان بشأن سدّ النهضة، مؤكّدًا ضرورة اضطلاع المجتمع الدولي بمسؤوليته في دعم مسارٍ عادلٍ ومتوازنٍ يضمن الحقوق المائية لجميع الأطراف.

انتهى حديثه، لكنّ الواقع مضى في اتجاهٍ مغاير.

 

*فقد أصرت إثيوبيا على انتهاج سياسة فرض الأمر الواقع، ساعيةً إلى التصرّف من جانبٍ واحدٍ دون تنسيقٍ أو تشاورٍ مع دول الجوار، في نهجٍ يُجسّد غياب حسن النية ويُهدّد استقرار المنطقة برمّتها. ومع استمرار جمود الحوار وتراجع فرص التفاهم، وجدت إثيوبيا نفسها في مأزقٍ سياسيٍّ وأخلاقيٍّ، فيما دفعت مصر والسودان ثمن هذا التعنّت، إذ أصبحا ضحية سياساتٍ تفتقر إلى الرؤية والمسؤولية.

 

*ولم يقتصر أثر هذه السياسات على المجال الدبلوماسي فحسب، بل امتدّ إلى الواقع الميداني، حيث ساهمت في تفاقم الأزمات المائية، منها موجات الفيضانات التي اجتاحتهما مؤخرًا، في مشهدٍ يجسّد بوضوحٍ كيف يمكن لغياب التنسيق والعقلانية أن يتحوّل من خلافٍ سياسي إلى خطرٍ إنسانيٍّ يهدّد أرواح الملايين ومستقبل الأجيال القادمة.

 

*وفي ظلّ استمرار التعنّت والمواقف المتشدّدة، يتّضح أن هذا النهج الإثيوبي لا يضاعف إلا التعقيدات في المشهد الإقليمي، ولا يترك للمنطقة سوى مزيدٍ من الاضطراب والتوتّر، في قلب إقليمٍ مثقلٍ أصلًا بالنزاعات والأزمات المتلاحقة. وكان بالإمكان أن يثمر التعاون مع مصر والسودان، والاستفادة من خبراتهما الطويلة في إدارة وتشغيل السدود، تجنّب سنواتٍ من التجارب المكلفة، ويفتح أمام الجميع آفاقًا من الاستقرار والازدهار المشترك، حيث تتحوّل مياه النيل من مصدر صراعٍ إلى رمزٍ لشراكةٍ حقيقيةٍ تنفع شعوب الحوض جميعها.

 

*وبينما يبدو الطريق نحو التفاهم مغلقًا أمام الأطراف، وهناك جدارٌ مسدودٌ لا يُفضي منه أي سبيلٍ للحوار، يصبح من الضروري أن تتدخّل المؤسسات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية، لتتولّى مسؤوليتها في تيسير الحلول واحتواء الأزمات. فحين يعجز الصوت الوطني عن تحقيق التفاهم، ينبغي أن يرتفع الصوت الأممي مناديًا بالحكمة والإنصاف، ليحول دون تفاقم النزاعات ويضمن حفظ الاستقرار والمصالح المشتركة في المنطقة.

 

*لذلك، وفي ضوء التحديات الراهنة، فإن الدور الذي تؤدّيه هذه المؤسسات الراعية للسلم والأمن الدوليين يكتسب أهميةً بالغة في مثل هذه المنعطفات الحرجة، حيث تتشابك المصالح وتتعقد المسارات. ومن هنا، أوجّه ندائي الصادق إلى تلك الهيئات بألّا تترك ملفّ سدّ النهضة رهين الجمود أو التجاهل، بل أن تعمل بجدّيةٍ ومسؤوليةٍ للوصول إلى تسويةٍ عادلةٍ تُرضي دولة المنبع، وتُراعي في الوقت ذاته مصالح السودان ومصر المتأثرتين بهذا المشروع.

 

*فترك هذا الملف دون حلٍّ منصفٍ ومتوازنٍ لن يكون مجرد تقصيرٍ في إدارة الخلاف، بل خطرًا داهمًا على السلم والأمن الدوليين، اللذين ينبغي أن يظلا فوق كل اعتبار. إنّ الحكمة الآن هي أن يتحوّل التفاوض من دائرة الصراع إلى فضاء العدالة، وأن تُفتح الأبواب أمام محكمة العدل الدولية لتقول كلمتها بما يضمن الحقوق، ويصون المياه من أن تتحوّل إلى شرارة نزاعٍ جديدٍ في قلب القارّة.

 

*فلعلّ هذا النداء يصل إلى أسماعٍ لم تُغلِق بعد أبوابها أمام صوت العقل، وإلى قلوبٍ لم تجفّ فيها ينابيع الإنصاف. لأنّ الماء — إن جفّ — جفّت معه الحياة، وإن اختنق مجراه، اختنق معه الأمل.

*فلتكن الكلمة سبيلنا قبل أن تكون السدود جدرانًا بيننا… ولينقذ العالم نهره قبل أن يذرف دموعه عليه.

*كاتبة مصرية مقيمة في لندن