النعجة القاصية

خالد الحيمى

اقتحمت الراعية مجلس شيخ القبيلة المكتظ نائحةً تلطمُ خديّها:
– ويلي… ويلي… ويلي، أكل الذئب كبشي السمين.
وقف الشيخ في شموخ الجبال، ولحيته ترفرف كبيرق :
– ليذهب عشرة من الرجال الصناديد، ويأتوني بالذئب حيّاً أو ميّتاً.
ارتمتْ الراعية على الأرض باكية. انحنى الشيخ برزانة، أمسك بكتفيها الهزيلين، وضمّها إلى صدره بحنان أب عطوف:
– لا تحزني يا صغيرتي، سنأخذ بثأرك، ونقتصُّ من الذئب.
أحنى الحضور رؤوسهم إجلالاً، وخرجت الراعية راضية تكفكف دموعها، وتجمع شتات نعاجها، وما هي إلا ساعة حتّى جاؤوها بجلد ذئب ملطخاً بالدم.
قال قائل: أكرمي الأبطال، واذبحي كبشاً لقاء ما فعلوه لأجلك.
ذبحته، وسلخته، وقطعته، وطبخته، وقدمته لهم بفخر واعتزاز.
باتت مطمئنة مرتاحة البال، والذئب مجندلاً في الفلاة… تُرى كيف قتلوه؟!
كان يجري خائفاً يطلب النجاة، تجاوز المرج، ووقف على التلّ، وعوى مستغيثاً برفاقه، ولكن هيهات، رصاصة أحد الرجال أردته قتيلاً في الحال، بعدها نالت منه خناجرهم ذبحاً وسلخاً وتقطيعاً، يا لقسوتهم ! لكنّه يستحق… أليس كذلك؟!
من المحتمل أنّهم تبعوه أبعد من التّل، أخطأته الرصاصات الأولى، وجعلته يتوارى خلف الأشجار الكثيفة في الوادي، لكنّ الرجال المسلحين تبعوه بإصرار وشجاعة، وتمكنوا من إطباق الحصار عليه، فهاجمهم بشراسة من يئس من الهرب، كاد يغرس مخالبه في كتف أحدهم، ويطبق بفكيه على ساق آخر، لكنٌ خناجرهم كانت الأسرع والأمضى، فأصبح المفترس فريسة سهلة بين أيدي الرجال الأشاوس.
يُحتمل أيضاً أنّهم أدركوه يرد النبع، يرتوى من مائه بعد وجبته الدسمة، شعر باقترابهم فانسلّ بين الصخور، وكمن منتظراً أقرب مهاجميه، وباغته بقفزة ذئبية عالية لم تبلغ هدفها، رصاصة أحد الرجال اخترقت قلبه، وطرحته أرضاً جثة هامدة…
هناك سيناريوهات متعددة يمكنها تخيّلها، تنتهي كلّها بالنهاية المستحقّة للذئب المعتدي، وتجعلها مفعمة بالسعادة والطمأنينة، فتغطّ في نوم عميق.
استيقظت باكراً، ساقت نعاجها إلى المرعى، لا تخشى الذئب، ولا تضنى بمراقبة الاتجاهات حذر مباغتته لها.
تناولت إفطارها تحت شجرة وارفة الظلّ، وترنّمت بأغنية شعبية عتيقة ( وارعيات الغنم فوق الجبال…. ) وعند انتصاف النهار جاء الشيخ ممتطياً سيارته الفارهة، محاطاً بأتباعه، قال قائل منهم:
– أكرمي الشيخ بكبش عظيم، لا… بل بثلاثة. ذو الجاه والهيلمان أجدر بأن يُكرّم بوليمة لائقة.
ذبحتهم… قدمتهم له، ولهم بيديها عن طيب خاطر…
أكلوا وتجشأوا.
نظر الشيخ إليها بحنان أب شفوق، قال:
– يا صغيرتي كلّ شيء على ما يرام، لا تقلقي سوف آخذ نصف النعاج؛ لترعى في مراعيَّ الخصيبة، ولك نصفها، لا ذئابَ ستجرؤ على الاقتراب منها.
في الليل عدّتْ ما تبقّى…، تسع نعاج، وحَمَل صغير. قالتْ: خير كثير، والشيخ سوف يحميني ويحميها.
باتت تحاول التفكير في الذئب، تجتهد في استعادة سيناريوهات اختفائه، ونهايته الدامية، ولا تفلح. كلما أمعنت في تخيّله تلاشت صورته من ذاكرتها، واكتنفها الضباب، وعواؤه يصكّ المسامع. أعادت المحاولة مرات ومرات حتّى شعرت بالإعياء، واستولى عليها النّعاس فنامت نوماً متقطعاً تتخلّله الكوابيس.
كانت ترعى في أرض مجدبة، والسماء مكفهرة، والرعد يقصف، والبرق يلمع، ونعاجها خائفة تحاول الهرب، لكنّ الذئاب تحاصرها من جميع الجهات، وتكشّر عن أنيابها استعداداً لافتراسها.
كانت تقف في الوسط حائرة معدمة الحيلة، شعرها أشعث يتناثر على كتفيها ووجهها، وملابسها رثّة مهلهلة وممزقة، وفي يدها اليمنى عصا صغيرة تحركها في الهواء، كأنّها تمنع اقتراب شيء خفي لا تراه.
بدأت الذئاب هجومها، وانشبت مخالبها وأنيابها في النّعاج، وهي خائرة القوى تراقب المشهد بعينين جاحظتين يملأهما الرعب والدموع. قصف الرعد من جديد، وهطل المطر مدراراً، واستيقظت تشعر بالظمأ الشديد. كان العرق يتصبّب منها، وفي عينيها دمعتان أطلقت سراحهما، وتناولت قنينة الماء، وشربتها عن آخرها.
بعد يوم جاء رسول من الشيخ ، قال لها:
– نسينا الحَمَل، عجّلي لا وقتَ عندي أُضيعه معك، وامنحيني نعجة مقابل تكبّدي عناء المجيء إليك.
بكتْ ولولتْ، قبل الغروب نفد الدمع على وقع موكب الشيخ الذي جاء مستعجلاً لأمر لا ريب مهم:
– يا ابنتي، لا ترهقي جسدك الغضّ، سوف آخذ كلّ النّعاج وأترك لك نعجة واحدة، تكفيك… أليس هذا عادلاً؟
غضبت… أمسكت بلحيته، جرّته كحمل نحو سيارته، قالت: عد من حيث أتيت، لا شأن لك بنعاجي، دع الذئاب تفترسها.
أذهلته المفاجأة، شلّت رجاله للحظات، ثم اندفعوا يضربونها بمؤخرات بنادقهم، حتى سقطت على وجهها، وانهالوا عليها بالركل والضرب، ولم يتركوها إلا فاقدة الوعي…
باتت بدموع صامتة، وجسد هزيل دامٍ ومنهك، وقد جافى عينيها النوم، واحتلّ قلبها الحزن، وإحساس عميق بالقهر والعجز واليتم، وفي أعماقها تجذرت رغبة عارمة في الرحيل، رغبة في الذهاب إلى عالم مختلف، حتّى لو كان ذلك الذي راودها في أسوأ كوابيسها، ولم تنتظر… حزمت متاعها القليل، وأخذت آخر نعجة تبقّت لها، ومضت عاقدة العزم على فراق مسقط رأسها، ومراعيها التي ألفتها وأحبتها، لم يعد لديها خيار، أضحت ترى الأشياء من حولها كئيبة حزينة، تبعث على البكاء.
كان الليل في آخره، والفجر قاب قوسين، وهي تسير على غير هدى، وصادف أن رأت الذئب على التّلّ، فذهبت باتجاهه، تربّعا على صخرة مرتفعة، وطفقا يعويان معاً.

*كاتب يمنى