رواية “الفهلوي”
محجوب الخليفة
▪️الحياة، في زواياها الأكثر خفاءً وظلمة، تختزن حكايات قلّما يُكتب لها أن ترى النور، قصصًا تُطوى بين سطور الصمت والحرمان حتى يكشفها القدر أو يفضحها الزمن. في أطراف مدينة مزدحمة بهمومها، حيث يلتقي الفقر واليأس في مشهد يكاد يكون رماديًا، وُلد شوقي. وُلد في غرفة ضيقة، داخل بيت بالكاد يُقاوم الرياح العاتية، وفي حضن عائلة تكافح لتجد معنى لحياتها وسط زحام البؤس.
▪️لم يكن ميلاد شوقي مجرد بداية حياة، بل كان إيذانًا بظهور شخصية استثنائية، غريبة الملامح والطباع، يُحاكي الخراب الذي وُلد فيه، لكنه لا يستسلم له. كانت طفولته ساحة معركة بين ضعفه الداخلي وطموحه المشتعل، بين نبذه من الآخرين ومحاولاته المستميتة للفت انتباههم، حتى لو كان ذلك عبر تصرفات تثير النفور أو السخرية. بدا وكأن الحي الفقير الذي نشأ فيه لم يكن قادرًا على احتواء أحلامه، أو كبح تطلعاته الجارفة نحو حياة أكثر رفاهية وبريقًا.
▪️رواية “الفهلوي” ليست مجرد حكاية عن شوقي، بل هي شهادة على واقع تُعيد فيه الحيلة ترتيب القواعد، ويتحول فيه الذكاء إلى سلاح لا يخضع لحدود الأخلاق. إنها حكاية الطموح حين يتجرد من المبادئ، والصعود السريع الذي تحركه المكر والدهاء، ثم السقوط المدوي الذي يلتهم كل شيء.
في هذه الصفحات، ستعيش مع شوقي رحلته الطويلة التي بدأت من الخراب ولم تُغادره أبدًا، وإن بدت في ظاهرها رحلة صعود إلى قمة السلطة والنفوذ. ستتعرف على قناع الوداعة الذي ارتداه، والخطط التي نسجها بذكاء يحسد عليه، والخيبات التي استنزفت كل ما بناه حتى عاد إلى نفس النقطة التي بدأ منها، وحيدًا تائهًا بين الأنقاض.
هذه الرواية ليست مجرد قصة خيال، بل هي مرآة تعكس صراعات الحياة التي تدور حولنا، حيث الفهلوة ليست مجرد حيلة، بل فلسفة للنجاة في عالم تتشابك فيه المصالح مع الطموحات.
الفصل الأول:
==========
ميلاد في الخراب
——————
في قرية صغيرة على أطراف إحدى المدن الولائية في السودان، حيث يلتقي شموخ الطبيعة ببؤس الإنسان، وُلد شوقي. القرية كانت تتنفس من حنايا الحقول الممتدة بلا نهاية، تزرع الأمل في النفوس كما تزرع الذرة في الأرض، لكنها كانت أيضًا مسرحًا دائمًا للفقر والتعب، حيث ينحني ظهر الرجال من أجل لقمة عيش لا تكاد تكفي لإطعام أفواهٍ جائعة.
ليلة الميلاد
—————
كان الجو شتويًا قاسيًا، الرياح تعوي في الخارج كذئب جائع، تتسلل عبر شقوق الجدران الطينية وكأنها تتآمر مع الفقر لتهدم ما بقي من هذا البيت. في الداخل، كانت أم شوقي، مسجاة على حصيرة رقيقة، تكابد آلام المخاض تحت نور خافت لمصباح كيروسين بالكاد يضيء الغرفة. جدة عجوز، أصابعها مرتعشة من برد الليل ومن ثقل الأعوام التي حملتها، كانت تمسك بيد الأم وتهمس بكلمات مطمئنة: “اصبري يا بنتي، كل شدة ووراها فرج.”
لم يكن في البيت طبيب أو قابلة، فقط يدان مرتعشتان وخبرة قروية متوارثة. وبينما كانت الأم تصرخ من الألم، كان الأب جالسًا خارج البيت تحت شجرة السنط التي لطالما كانت ملاذه من مسؤوليات الحياة. يشارك الرجال لعبة “السيجة”، وهو يمضغ بقايا التبغ في فمه، غير مكترث بصيحات الألم التي تأتي من الداخل. عندما صاح أحد الجيران: “يا شيخ، قوم شوف مراتك، الليلة دي احتمال تجيب ولد!”، لم يحرك سوى حاجبيه، قائلاً بفتور: “دي شغلة النسوان، وأنا ما عندي فيها.”
لحظة الميلاد
—————-
كانت الساعة تقارب منتصف الليل حين وُلد شوقي، صرخة مدوية اخترقت سكون الليل، لم تكن مجرد صرخة وليد، بل كانت أشبه بصرخة احتجاج على هذا العالم الذي جاء إليه مُجبرًا. الجدة رفعت الطفل، غسلت وجهه بماء بارد جُلب على عجل، وهمست: “ربنا يجعلو سبب خير عليكم، يا بنتي.” الأم، التي أرهقتها الحياة أكثر من الولادة، ابتسمت بصعوبة، ثم استسلمت لنومٍ ثقيل.
لكن والد شوقي لم يرَ في قدوم هذا الطفل إلا عبئًا جديدًا. طفل آخر يعني فمًا آخر يطلب الطعام، جسدًا يحتاج للملابس، وعقلًا ربما لن يجد مدرسة يذهب إليها.
طفولة مختلفة
——————-
كبر شوقي في هذا البيت الذي بالكاد يمكن تسميته بيتًا. كان بيتًا أقرب للكوخ، يتوسط القرية التي تنام وتصحو على وقع العمل في الحقول. أمه كانت عمود الأسرة، تعمل في البيت وفي الحقل، وتطعم أطفالها بما تيسر من الذرة والفول. أما والده، فكان يعيش في عالم آخر، عالم الأقوال الفارغة والأحلام الضائعة.
الأطفال في القرية كانوا يلعبون بحرية، يتسابقون في الطرق الترابية التي تفصل بين الحقول، يطيرون طائراتهم الورقية المصنوعة من أكياس البلاستيك، لكن شوقي لم يكن مثلهم. كان يقف بعيدًا، تحت شجرة السنط الكبيرة التي أصبحت مأواه، يراقبهم بصمت، وكأنه يبحث فيهم عن إجابة لتساؤلات لم يستطع التعبير عنها.
ذات يوم قرر شوقي أن ينضم إليهم، تقدم بخطوات مترددة، لكن أحد الأطفال أوقفه بضربة على كتفه، قائلاً: “أنت ولد الفقر، مالك ومال اللعب؟”. ضحك الآخرون بصوت عالٍ، وتركوه واقفًا وحيدًا. عاد شوقي إلى البيت، وجهه متجهم ويداه تقبضان على حفنة من التراب، وكأنه يعاهد نفسه على ألا يظل ضعيفًا أبدًا.
الليل والحلم
—————–
في ليالي القرية الباردة، كان شوقي ينام على حصيرة قديمة، يتكور على نفسه طلبًا للدفء، بينما تغني له أمه أغانٍ تراثية تخبره أن الغد ربما يحمل فرجًا لم يحمل الأمس. كان يغمض عينيه على صوت والدته، لكنه لم يكن يغرق في النوم بسهولة. الليل بالنسبة له كان زمن التفكير، زمن الحلم. كان يتخيل نفسه يطير فوق القرية، يراها من الأعلى، ويرى حقولها وشوارعها الطينية، لكنه كان يرى أيضًا عالمًا آخر بعيدًا، عالمًا لا يعرف عنه شيئًا لكنه كان متأكدًا من وجوده.
أمل في قلب الخراب
في هذه القرية التي كانت تبدو للناظر وكأنها قد نسيت من خريطة العالم، نما شوقي. كان طفلًا مختلفًا، يحمل في عينيه تساؤلات أكبر من عمره، وفي قلبه تصميمًا غامضًا على كسر قيود القدر. أدرك مبكرًا أن هذه الأرض لن تقدم له شيئًا، لكنه كان مصممًا على أن ينتزع منها شيئًا، ولو بالقوة.
لم يكن ميلاد شوقي مجرد حدث عابر في قرية منسية، بل كان بداية لقصة طويلة، قصة رجل قرر أن يواجه العالم، لا ليهرب من جذوره، بل ليصنع منها أساسًا يقف عليه وهو ينظر إلى الأمام. كانت الرياح التي عصفت ببيتهم ليلة ميلاده تحمل معه وعدًا خفيًا: أن الخراب، مهما استبد بالإنسان، قد يكون بداية لشيء عظيم.