قصة موجة

 

محمد شامي/ جيبوتي 

بدأ صيف هذا العام قبل أوانه كيف سيكون منتصفه اذا كانت بداياته بهذه الصعوبة ؟ هذا مادار بخلدهن في تلك اللحظات …
☆☆☆☆☆
كنت وصديقاتي في صالون منزلي ومؤشر جهاز التكييف على ١٦ درجة مئوية، وكأنه على ٢٥ د م وما فوق، كان ذلك بسبب إرتفاع درجة الحرارة في الخارج .. عدت بذاكرتي إلى الوراء، إلى ما قبل 50 عاما خلت، حيث ضربت مدينتنا وقتها موجة حر شديد ، لا مثيل لها، كنت حينها طفلة في ربيعي الثالث عشر، فقدت في ذلك الصيف جدتي الاثنتين، واقاربنا بالجملة .. كان ابي يجلب الماء من بئر يقع خلف منزلنا رفقة عمي، يرشان حوش منزلنا طوال اليوم وأمي تبلل قطع القماش وتضعه علينا وعلى جدتي اللتين رحلتهما تلك الموجة ، كانت الارض تجف سريعا، كأنها لم تر الماء يوما ، والاقمشة تجف في ربع دقيقة .. إستمرت موجة الحر القاتل ومعها الفواجع اليومية، خمسة عشرة يوما ، لن ننسى أبدا أيام الحر تلك ، لم تتكرر تلك الحالة الغريبة منذ ذلك الزمن .. كان البعض يقول وقتها أن الله غاضب من مدينتنا وأهلها لكثرة ذنوبنا، البعض قال أنها من إمارات الساعة وأن هذا الحر جزء من نار جهنم ، وأن فوهة جهنم هنا في مدينتنا، لم يكن كل ذلك صحيحا، فهي ظاهرة طبيعية تزور المنطقة كل خمسين او سبعين سنة ..
قلت لهن : ربما ستأتي موجة الحر تلك في اي وقت، من الآن فصاعدا، وهناك احتمال كبير أن تزورنا الحالة في هذا الصيف ….
قاطعتني جارتي التي لا تفارقني ، جارتي ما شاء الله وتبارك الرحمن عابدة ساجدة، لها إشارة سجود بارزة على جبهتها العريضة، كانت يومها ترتدي جلبابا وحجابا ابيضا، بيدها سبحة خشبية طويلة لا تفارقها، وتتمتم بالتسبيح دون توقف، قالت جارتي: توقعات ، توقعات .. كلام فارغ .. ثم صمتت …
قلت بشيء من الاستياء:_لا لا ، ليس كلاما فارغا يا حبيبتي ، صحيح انها توقعات لكنها توقعات علمية مؤسسة، بحسابات ،
قاطعتني مرة اخرى : استغفروا ربكم يا ناس، فلا يعلم الغيب الا الله سبحانه وتعالى، وهو علام الغيوب ..
اضافت : أنا سابقى هنا، في مدينتي، لا أهاب حرها، ولا أخاف بردها.. اذهبوا انتم ..
ضحكنا جميعا ، قلت لنفسي لن اننتظرهنا موجة الحر المرعبة تلك، قررنا انا وزوجي وحفيدي السفر الى مدينة جبلية بعيدة في بلد جار لبلدنا، جوها جميل ماطر في الصيف، دافىء نهارا وبارد ليلا ، يقصدها الكثيرون هنا لقضاء عطلة الصيف فيها، سبقتنا إبنتي وزوجها إليها، الإيجار في ذلك البلد وفي تلك المدينة رخيص والحياة مريحة مقارنة ببلدنا، فيها جمبع أنواع الفواكه والخضار، تعج كذلك بالمواشي لذا يتوفرهناك الحليب ومشتقاته الطبيعية، سنحرم هناك فقط من السمك الطازج الذي نحبه ونشتريه يوميا في بلدنا ، باعتبار أن ذلك البلد مغلق (لا بحر له) ، سنبقى هناك إلى أفول شهور الحر ومغادرتها ،، رتبنا أغراضنا للسفر، جمعنا كل ما قد نحتاج إليه هناك، قبيل سفرنا بساعات اتصلت بي إبنتي وهي تبكي، وكانت في حالة هلع وخوف شديدين، استرجعت انفاسها المتسارعة والتي كانت تهز صدرها وأسمع إهتزازه هنا وقالت:
_ أمي المدينة تحترق يا أمي ، لم يبقى فيها بيتا قائما ، احترق كل شيء يخصنا يا أمي ولذنا بأرواحنا وبأعجوبة ، بدأ كل شيء سريعا يا أمي، سمعنا بجريمة قتل منظمة صباح أمس، أعقبه إنتقام وقتل آخرين في الظهيرة، كان الأمر شبه طبيعيا ، وتطور في المساء وبلغ ذروته في الليل، أكلت النار الاخضر واليابس هنا يا أمي..
حمدت الله كثيرا … وقلت محدثا نفسي ؛ حر مدينتنا أرحم ، حر مدينتنا أرحم .

* رئيس نادي القصة في جمهورية جيبوتي