عن أمريكا وحرب السودان والشيخ البرعي

 

عادل الحامدي

في فهم المتغيرات السياسية حول العالم، ينصح علماء الاجتماع والسياسة بالتركيز دوما على الظاهر والمستتر من الأهداف المعلنة لموقف أي دولة من قضية معينة.. ويشدد الخبراء كما التجارب، على الانشغال بالأحداث الواقعية، وقراءة المواقف المعلنة والواضحة من مختلف الأطراف، على أن يتم ترك الخفي منها للجهات المعنية بمتابعة المعلومات وتمحيصها قبل تقديمها لصانع القرار.

وهذه القواعد المتبعة في دراسة الظواهر السياسية والتاريخية، هي الغالبة على كتب التاريخ والاجتماع، وإن كان فريق من علماء الاجتماع يشذ عن هذه القواعد لجهة الاعتماد على الوقائع والتوجه منها إلى المستقبل وتقديم توقعات تستأنس بالتاريخ من جهة، وبالأرقام الواقعية من جهة أخرى..

ولهذا السبب يقف كثير من أبناء أمتنا العربية والإسلامية، حيارى أمام السطوة التي تبديها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها في الهيمنة على العالم وتطويعه لسياساتها.. وهم يبحثون عن آثارها في كل السياسات العالمية، حتى في ثورة بنغلاديش الطلابية التي أطاحت بحكم الشيخة حسينة، على الرغم من الدعم الهندي والدولي لها.. وقبل ذلك في ثورة السودان التي انطلقت مدنية واستحالت إلى عسكرية شعارها الظاهر إشاعة الحرية وباطنها الثأر من السواعد السمراء التي آمنت بآية الاستخلاف.

لا أحد من العالمين يشكك في أن الولايات المتحدة الأمريكية تقود العالم، ليس بالاعتماد على حكمتها ودهائها السياسي وحده، وإنما أيضا بقوتها العسكرية والاقتصادية وتحالفاتها مع رأس المال العالمي، وقدرتها على خدمة أجندة اللوبيات الأقوى عالميا.. ولأجل ذلك يتحاشى الجميع الدخول معها في مواجهة علنية، لأن نتائجها معروفة سلفا.. إذ من غير المقبول عقلا أن تنهزم الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة تنظيم الدولة أو دولة مثل العراق أو حتى مثل أفغانستان بعد أن أعدت واشنطن العدة لحربها واتخذت الوسائل المادية والعسكرية الكفيلة بذلك..

لكن في مقابل هذذ النظرة الواقعية السطحية لقراءة الأحداث، يتجه فريق من علماء الاجتماع والسياسة أيضا، إلى القول بأن الحرب في النهاية ليست فقط موازين قوى عسكرية، لأن القوة ليست دائمة، كما أنها ليست بالتحالفات وحدها، لأن التحالفات كذلك ليست دائمة، وإنما بمعايير الإرادة والأهداف تتم قراءة مصائر الحروب..

في التراث الفني والثقافي والديني السوداني، يتربع الشيخ البرعي في قلب التيار الصوفي المؤمن بقضاء الله وقدره، وأن الله هو أعلى من كل القوات القاهرة.. وأن مجريات الواقع وإن كانت تسير وفق السنن التي رسختها التجارب، فإن وراءها إله قوي قادر تعهد بنصرة عباده المستضعفين وتمكينهم في الأرض ولو بعد حين..

ومع الاختلاف البين بين الشعر والفن والسياسة بما تحمله من دهاء وخبث يصل حد الحروب التي تطحن الإنسان وتزهق روحه، فإن الفن والكتابة والإبداع يبقى في النهاية ليس ديوان العرب والمسلمين، ولكن أيضا الوسيلة التي بها يسجل الإنسان تاريخه ويكتبه للأجيال المقبلة..

كانت قصيدة “مصر المؤمنة” التي تلخص الفرق بين الواقع المادي الملموس، الذي قاد الشيخ البرعي إلى مصر للاستشفاء من داء مستحكم لا ينقذه منه إلا عملية جراحية استئصالية، وبين المعجزة التي بينت للأطباء بعد يوم من تشخيص الداء، أنه تلاشى وغدا أثرا بعد عين، واحدة من الشواهد العينية على أن التاريخ كل متكامل، وأن صناعة الواقع وتطويعه تحكمه عوامل متعددة أقواها الإيمان بعدالة القضية التي يحملها الإنسان، وانتمائها إلى الفطرة أولا وإلى الأصيل من القيم الإنسانية النبيلة..

وهكذا يمكن النظر إلى الدور الأمريكي الأخير ودعوته إلى جولة مفاوضات جديدة في جينيف، بعد أن خال السودانيون أنهم قاب قوسين أو أدنى من إعادة السيوف إلى أغمادها وفقا لاتفاق جدة.. أبدعت العقلية الأمريكية مبادرة في جينيف رأى قسم من السودانيين أنها خدعة جديدة وجزء من تمطيط الحرب وإطالة عمرها، وإعادة الحياة لمتآمر بان عيبه وقاتل شاهت صورته بين العالمين.. بأنها محاولة يغيب عنها الثابت من القيم والتاريخ..

بعد عام ونصف عن اندلاع الحرب في السودان وانكشاف المستور من عوراتها.. باتت معالم المشاريع التي روج لها أدعياء الديقراطية والتنوير والتقدم في السودان كما في غيره من دولنا المغلوبة على أمرها واضحة للعيان.. ومصيرها الفشل حتى وإن طال زمنها..

*كاتب وإعلامي مقيم في لندن